لم تكن الأسباب التي أدت إلى حدوث الأزمة الاقتصادية العالمية تقنية فقط، ناجمة عن سوء في التقدير أو في الاحتمال، بل إن أسبابها في واقع الأمر ترجع بالأساس إلى الفساد المالي والسياسي . ففي أزمة 1929 كان السبب تقنيا، أو على الأقل جزء كبير منه كان كذلك، حيث ارتكبت الجهات المالية خطأ فادحا تمثل في تخفيض عرض النقد بحوالي الثلث، وهو تخفيض كبير جاء كرد فعل عن الانهيار الذي أصاب بورصة "وول ستريت " الشهيرة. وهذا ما حول الكساد إلى انهيار اقتصادي كبير. فساد مالي وسياسي مكتشف الخطأ الذي وقع هو الخبير الاقتصادي الكبير "ميلتون فريدمان" الذي حذر من تكراره وأنذر من أن يتكرر ذلك في المستقبل. وقد وعد بتفادي ذلك"بين بارنانكي" الرئيس الحالي للاحتياطي الفيدرالي أحد تلامذته في العام 2002 والتزم في ملتقى نظم إحياء لذكراه وإكراما لجهود أستاذه في المجال المالي، و قال "سوف لن نرتكب نفس الخطأ". ولكن الآن تكرر الخطأ وجاءت أزمة العام 2008 هذه المرة ليس بسبب البنوك التي لم تكن طرفا فيها بل من شركات الرهن العقاري التي قدمت قروضا للراغبين في الحصول على سكن، دون التزامهم بأي دفع مسبق، وقد وصل الأمر إلى حد تقديم قروض تفوق نسبتها 100 بالمائة من سعر المنزل، بالإضافة إلى عدم الالتزام بشروط الحيطة والسلامة البنكية حيث لم يتم التأكد من أن دخل المستفيدين قد لا يساعدهم على السداد في المستقبل. وكانت القروض متنافية مع كل الشروط البنكية التي يتم التعامل بها عادة حيث أدى الطموح إلى الربح الكبير والسريع إلى التغاضي عن كل الاحتياطات كون الرهن العقاري كان يوفر أرباحا طائلة للمؤسسات الممولة، وهذا ما أدى إلى ارتفاع هذه القروض بأكثر من 25 بالمائة سنويا خلال الفترة الممتدة بين سنوات 2003-1994 وعندما عجز المقرضون عن سداد القروض بدأت الأزمة المالية ثم امتدت لقطاعات أخرى. ولم تكن الأرباح المالية هي وحدها من دفع شركات الرهن إلى تقديم قروض إلى الزبائن دون أخذ الاحتياطات اللازمة ، حيث كانت دواعي سياسية وراء العملية، فقد مارس أعضاء الكونغرس ضغوطا كبيرة على المؤسسات التمويلية الكبيرة مثل "فريدي ماك و"فاني ماي" لتسهيل عمليات منح القروض للمواطنين كونها تجلب أصوات الناخبين لأعضاء الكونغرس، كما كان لهذه المؤسسات تأثير على الكونغرس إذ كانت من أهم ممولي حملات أعضائه الانتخابية . ومثلما هي أسباب الأزمة مالية وسياسية فإن مخلفاتها ستكون كذلك مالية وسياسية، ولكن ليس على مستوى الولاياتالمتحدةالأمريكية فحسب بل على نطاق كل العالم. ومن بين الأمور التي ستمسها تداعيات الأزمة الاقتصادية الحالية مجال المساعدات والمعونات الاقتصادية التي تقدمها الدول الغنية للدول الفقيرة والتي ستنخفض بسبب أن الدول الغنية ستضخ الدولارات في أنظمتها المالية لتجاوز الأزمة المسجلة وليس في الدول الفقيرة لخفض نسبة الفقر . وقالت في هذا الشأن، إفلين هيرفكنز مؤسسة حملة الأممالمتحدة لأهداف الألفية من أجل تخفيض الفقر، إن الحملة ستواجه مشكلة في حال عدم وفاء الدول الغنية بتعهداتها. وقالت هيرفكنز على هامش ندوة دولية حول الغذاء في العالم نظمت الأسبوع الماضي في ميلانو بإيطاليا "إنها تأمل ألا ينسى وزراء المالية الذين يضخون الدولارات في أنظمة بلادهم المالية بعض المليارات التي تعهدوا بتقديمها للدول الفقيرة"، مؤكدة في سياق متصل أن " الأزمة المالية ستضرب الدول النامية في عدة صور منها خفض المعونات وانخفاض الطلب في الدول الغنية إضافة إلى انخفاض القروض للدول الفقيرة وانخفاض الاستثمارات فيها". ونظرا لترقب حدوث كساد في العالم خلال السنوات المقبلة نتيجة تأثر الاقتصاد الحقيقي بالدول الغربية بسبب الأزمة المالية، وهذا ما سينعكس سلبا على اقتصاد دول العالم وبينها الدول العربية خاصة التي تعتمد على السياحة بعد أن يتراجع إنفاق المواطن الغربي ولا يمكنه التنقل من أجل الساحة، حيث يتوقع أن يقل عدد السواح الأجانب القادمين من أوروبا وأمريكا إلى الدول العربية المعروفة بمناطقها السياحية مما يؤثر على بعض الدول العربية التي تعتمد على مداخيل السياحة مثل مصر وتونس ... ما يمكن ملاحظته بخصوص الأمور الجانبية المتعلقة بالأزمة أن المجموعة الدولية تكاثفت بطريقة واضحة لمجابهة مخلفات الأزمة وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، حيث قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة عقد اجتماعات طارئة حول الازمة ، وسيشهد اجتماع يوم 30 أكتوبر الجاري حضورا م لدبلوماسيين وخبراء ماليين واقتصاديين عالميين لدراسة الازمة الاقتصادية الراهنة ووضع خارطة طريق .. وتعهدت الدول الأوروبية قي قمة الاتحاد الأوربي المنعقدة مؤخرا بتقديم مبالغ مالية لمساعدة البنوك ودعم ضماناتها لمواجهة الأزمة المالية العالمية، وتحركت في هذا السياق كل من ألمانيا وفرنسا. نهاية نظام و بخصوص ما يقال حول "نهاية الرأسمالية" نفى كثير من الخبراء الاقتصاديين ذلك لكنهم أكدوا بشكل يكاد يكون قاطعا على انتهاء النظام المالي بصورته الحالية ونهاية أسطورة البنوك الاستثمارية التي لا تنهار. كما ترقبوا العودة إلى الرقابة من قبل الحكومات أي التعامل في المجال المالي بطريقة أكثر صرامة وتشدد، وهو ما كان موجودا قبل نحو ثلاثين عاما خلت .. وخلاصة ما وصلت اليه التحليلات إن ما سيحدث هو إعادة ترتيب للنظام المالي وإعادة ترتيب لأولوياته حتى لا تنهار دول محورية تؤدي إلى تدهور أمني يصيب العالم، وأشاروا بطريقة واضحة إلى نموذج باكستان . لكن بعض الخبراء وحتى بعض المحللين السياسيين بدؤوا يشيرون إلى ما يمكن اعتباره بعودة الاشتراكية بطريقة او بأخرى . وفي هذا السياق أكد صاحب دار نشر ألمانية متخصص في الأدب الشيوعي نهاية الأسبوع الماضي ، أن كتب كارل ماركس تلقى إقبالا منقطع النظير، وقال يورن شوترومف مدير دار نشر "كارل ديتز فرلاغ" في برلين، المشارك في معرض الكتاب بفرانكفورت الذي ينتهي الأحد القادم، " بأن أبرز مبيعاته، هو "رأس المال" كتاب الماركسية الأساسي، الذي ألفه كارل ماركس وفريدريك أنجلز عام 1867وفي الوقت الذي يشهد العالم ركودا اقتصاديا اعتبر الناشر الألماني أن "مجتمعا يشعر مجددا بضرورة قراءة ماركس هو مجتمع لا يشعر أنه بخير".