ماهي أسباب غياب التحقيق الصحفي من صفحات جرائدنا الوطنية ؟ طرح علي هذا السؤال من قبل طلبة من قسم علوم الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر يحضّرون لإنجاز مذكرة. ويبدو أن السؤال استفزازي أكثر منه واقعي، وهو مرتبط بالفكرة الداعية إلى صحافة البحث والتحري . إذا كان المقصود بالتحقيق ذلك النوع الصحفي الذي"يقوم على تقصي الحقائق ويبحث عن تفسيرات للوقائع والأحداث" كما يعرفه أساتذة الإعلام والاتصال، فإن الصحافة الجزائرية لم يغب عنها أبدا هذا النوع، وإن كان لم يسجل حضوره بالكثافة والقوة والفاعلية المنتظرة منه. فحتى صحافة الثورة كانت تقوم بتحقيقات. كما أن صحافة ما قبل التعددية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لم تكن خالية من التحقيقات، فقد رصدت التطورات في البلاد والتحولات الإيديولوجية التي عرفتها، وهناك من تناول بعض السلبيات والنقائص. حتى في عهد الحزب الواحد... وفي هذا السياق، ذكر لي الأستاذ سعد بوعقبة، الصحفي المعروف، أن جريدة "الشعب "كانت تهتم بالتحقيقات إلى درجة أنها أنشأت لها قسما خاصا، وقد ترأسه هو سنة 1983. ومن التحقيقات التي تركت بصماتها آنذاك، تحقيقا أنجزه بوعقبة في تلك السنة بعنوان :"إذا كان خصمك المير.. ما عندك ما دير! " وعن قصة هذا التحقيق يقول صاحبه:" قدم لي الأستاذ بوعروج الذي كان مديرا لجريدة " الشعب "رسالة بعث بها مواطن من منطقة " رأس الواد" قرب مدينة سطيف يذكر فيها أن مهاجرا بفرنسا أراد بناء مسكن بمسقط رأسه فطلب قطعة أرض من رئيس المجلس الشعبي البلدي، فمنحت له القطعة لكن " المير" كان يطلب منه في كل مرة أن يعطيه "الدوفيز" ونتيجة رفض المواطن تقديم رشوة كان المير يأمر بتهديم البناء وتكررت عملية الهدم ثلاث مرات". ويذكر بوعقبة أنه انتقل إلى عين المكان وتحدث مع المواطن المعني بالأمر ، واتصل ب" المير" وبعد نشر التحقيق، تم فصل" المير" من منصبه. كما يذكر الصحفي المعروف محمد عباس أنه أنجز تحقيقا في منتصف السبعينيات بعنوان: "العقلة..البلدية المنسية التي تعيش على الانتظار" وهذه المنطقة تقع في ولاية تبسة. وقد أورد التحقيق شهادة مواطن وصورته وهو يحمل أسنانا لأحد الموتى كانت في المواقع، و يقول هذه أسنان والدي الشهيد الذي مات من أجل هذه الأرض مبرزا تعلقه بالأرض رغم الفقر والحاجة . وبدت الصورة مؤثرة جدا إلى درجة أنها فتحت نقاشا حادا بين أعضاء مجلس الثورة حول الولايات الغنية والولايات الفقيرة وفكرة التوازن الجهوي وتقسيم الدعم المالي آنذاك على الولايات الفقيرة فقط ، وكون ولاية عنابة التي كانت تنتمي إليها هذه المنطقة تعتبر من الولايات الغنية فإنها لم تتحصل على برنامج الدعم آنذاك. وبعد التحقيق أخذت بعين الاعتبار المناطق الفقيرة التي توجد داخل ولايات غنية، ونالت حقها من الدعم . وللتعددية طابعها الخاص ... لكن ما يبقى في الذاكرة من التحقيقات هي تلك التي تفرض تغييرا في الأشخاص أو المواقف أو السلوكات. وقد حاولت الصحافة الجزائرية بعد إقرار التعددية الإعلامية في قانون الإعلام الصادر في أفريل من سنة 1990 السير في هذا التوجه وإعطاء اهتمام أكبر للتحقيق . ومن التحقيقات التي أحدثت ضجة وتركت صدى على الساحة ، أذكر على سبيل المثال لا الحصر تحقيقا أنجز في بداية التسعينيات، أنجزته صحفيتان من جريدة " الجمهورية " الصادرة بوهران غرب البلاد، حول أراضي وعقارات أخذها النافذون في النظام، ومباشرة بعد نشر التحقيق تم توقيف مدير الجريدة آنذاك حبيب راشدين ووضعت الصحفيتان في السجن ليتم إطلاق سراحهما بعد ذلك. وأذكر أنني قمت بإنجاز تحقيق في العام 1992 صدر في جريدة "الخبر" بعنوان: تجاوزات خطيرة في مستشفى تقصرين" - المرضى أضربوا عن الطعام منذ يومين - المديرة احتجزت بعثة "الخبر "3 ساعات. وكانت التفاصيل بواسطة شهادات المرضى وتصريحات بعض مسؤولي المستشفى حول تجاوزات وتلاعب حدثت بخصوص الإطعام والعناية على مستوى مصلحة المعوقين الذين كانوا يعالجون بالمستشفى. وقد أحدث التحقيق حينها ردود فعل قوية داخل المجتمع المدني، وأدى إلى فصل المديرة المعنية بسبب احتجاز الفرقة الصحفية. وتم فتح تحقيق في التجاوزات التي وقعت في المستشفى. وفي منتصف التسعينيات، أذكر أن جريدة "الوطن" الصادرة بالفرنسية نشرت تحقيقا حول عملية مشكوك فيها لاقتناء أجهزة " سكانير" من الخارج لفائدة المستشفيات، أنجزه الطبيب الصحفي الذي يرأس حاليا جمعية مكافحة الرشوة. وقد أحدث التحقيق ضجة كبيرة ورفعت وزارة الصحة دعوى قضائية ضد الجريدة. وهناك تحقيقات أخرى لا يسع المجال لذكرها كلها ، و رغم هذا يبقى عددها قليلا وتأثيرها محدودا . في بداية العشرية الماضية بدأ التحقيق الصحفي يعرف طريقه إلى الانتشار، لكن الوضعية الأمنية الخاصة التي عرفتها البلاد لم تساعد الصحفيين في التنقل بحرية وأمان، فقل عدد التحقيقات وتقلصت مساحتها في الجرائد واقتصر الأمر على التحقيق في الجانب الأمني الذي له مميزاته الخاصة والاستثنائية. والتحقيق لا يزدهر إلا بتوفر شروطه، فإذا كانت كل الأنواع الإعلامية بأشكالها المختلفة والمتعددة ترتبط بحرية التعبير ارتباطا وثيقا فإن التحقيق الصحفي يعيش فيها و بها ولا يمكنه أن يكون بدونها، فوراء كل تحقيق حرية تعبير. والمعروف تاريخيا أن التحقيق انتشر في الصحافة في بداية القرن الماضي مع انتشار الأفكار الديمقراطية وما تحمله من حرية النقاش وحرية الرأي والتعبير، وعرف أحسن مراحله في الثلث الأخير من القرن الماضي. وكون التحقيق "يرسم صورة واقعية للحياة " ويقوم أساسا "على تقصي الحقائق ويبحث عن تفسيرات للوقائع والأحداث" حسب التعريف الأكاديمي فهو أداة صحفية لا تقبل بالواقع المعيش وتعارض قي أحيان كثيرة السلطة القائمة. ولهذا تزامن ازدهاره مع انتشار فكرة التغيير الاجتماعي والسياسي في المجتمعات الغربية وقد طرحت من خلاله القضايا و المشاكل الاجتماعية بطريقة موضوعية وبأسلوب حر مما أدى إلى إيجاد حلول لها ، والبحث عن مجتمعات أفضل . والآن... تسعى مختلف الجرائد الجزائرية جاهدة من أجل إنجاز تحقيقات، وهي مسؤولية توضع على عاتق مسؤولي الجرائد والصحفيين على السواء. لكن موازاة مع هذا فإنها ترتبط بالمحيط فلا يمكن تصور ازدهار التحقيق في أجواء يسودها الانغلاق السياسي والإعلامي وتفتقد فيها الحريات والحقوق الجماعية والفردية. وتصل فيها العقوبات إلى درجة السجن . ويبقى المحقق الصحفي في الجزائر يشكو من صعوبة الوصول إلى مصادر الخبر ، فكيف يمكن للصحفي إنجاز تحقيق عن مكان منع من دخوله وعن أشياء لم يسمح له بمعرفتها ؟ في الدول الديمقراطية يتم إلزام المسؤول بتزويد الصحفي بالخبر وفي حالة ما لم يتم ذلك ، من حق الصحفي أن يرفع دعوى قضائية ضد المسؤول المعني. وإذا كان قانون الإعلام ينص على الحق في الوصول إلى مصدر الخبر فإنه لم يحدث لحد الآن إلزام المسؤول الذي يرفض ذلك. وحتى في حالة نشر الجرائد بأن المسؤول الفلاني امتنع عن تزويدها بالأخبار فإن الأمر يمر دون أن تتم متابعته لا قضائيا ولا حتى إداريا . [email protected]