إن سلامة القلب وصحته إنما هي بعناية ربانية وتوفيق من الله، وعلى كل من علم هذا أن يطلب المدد من الله وأن يرجوه بحرقة على أن يعينه على ذلك، فإذا أراد الله بعبد خيرا غلّب عقله على هواه، وملأ قلبه بأنوار اليقين، وأمطر من سماء روحه ماء الخشية، وزحزحه عن الشح والبخل اللذين لا يجتمعان مع فضيلة في إنسان. وعند هذا يتساوى عنده العطاء والمنع ما داما من الله الذي أراد وهو لا يسأل عما يفعل، فإن واجهته في الحياة مصيبة صبر وشكر فكل مصيبة إلى زوال ولا يبقى إلا رضى المولى عز وجل على عبده الصبور، وإن تراءت له رغبة أو غالبته شهوة أو عرض له هوى ذكر الله فاستحيى منه، حتى يتخلص من كافة رعونات نفسه ويصبح شغله ذكر الله ورضاه. قد يقول قائل: كيف يتساوى العطاء والمنع؟ وكيف السبيل إلى الصبر والشكر عند هجوم المصائب؟ وهل يتفق هذا مع طبيعة الإنسان ذي الحاجات والرغبات والتطلعات؟ والحق أن من استقر اليقين في قلبه طويت الدنيا كلها في عينه وقلبه وهانت عنده كما هي هينة عند ربه، فكل حاجة عنده وكل رغبة لديه وكل تطلع له إنما يكون لما بعد هذه الحياة الدنيا بما فيها من نعيم لا ينفد وكرامة لا تنقطع. فإن قيل كيف السبيل إلى ذلك؟ قلنا بالمعرفة أولاً فهي أصل كل دواء، وللمعرفة أسباب لا بد من الأخذ بها، أولها التجرد من الهوى فالتجربة تقول إن كثيرا من الناس تصنع أهواؤهم معارفهم، فهم إن كانوا يميلون إلى التحلل لحقوا بالشكوك واستمعوا للمنافقين من المشككين والمنكرين حتى تتشوه معارفهم فيكونون ممن أرادوا الضلال فأضلهم الله، ومن أسباب المعرفة طلبها عند مظانها، والحق بيّن وأهله بيّنون. والزيغ بيّن وأهله واضحون، ولا بد من طلب المعرفة عند مربٍ خبير بأحوال النفوس وأمراض القلوب والبعد أولا عن أصحاب البدع والشبهات حتى تتمكن المعرفة من قلبه وعندها لا خوف عليه مهما واجه من أصحاب الفتنة والضلال. ومن أسباب المعرفة الناجعة ألا تبقى أفكارا باردة في العقل، فلا بد لها من أن تتحول إلى مواقف واتجاهات وسلوك لا ينقصها الوجدان اليقظ والإخلاص النقي والحرارة الإيمانية. ولا يكون ذلك إلا بالصحبة الصالحة والدوام على ذكر الله وقراءة القرآن وطلب العلم دون حد يتوقف عنده، ذلك أن الذكر به تحيا القلوب وتطمئن، وقراءة القرآن الكريم بها تشفى الصدور، والمذاكرة والمناصحة بين الصحبة الصالحة لا تترك للشيطان فسحة ليعبث في فكر المرء أو ليؤجج هوى من هواه، أما طلب العلم وحضور مجالسه فتلك هي جنة الدنيا التي تنعم بها القلوب المؤمنة وترتقي بها سبل القرب من المولى تبارك وتعالى. عند كل ذلك يصبح للمرء مثالاً هو ما عرف بالإنسان الكامل والذي لا يمثله خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يسعى كل عمره إلى تمثل الحدود البشرية الممكنة من صفات الله وأسمائه الحسنى، فيكون كريما ورحيما وودودا ويكون صبورا وشكورا وحليما، ويكون جبارا وقهارا وشديد العقاب لكل من عادى الله أو انتهك حرمة من حرماته، فنحن إذن أمام إنسان كل همّه أن يصل إلى الممكن من الكمال، ويبعد عن النقص والعيب في المعرفة والسلوك، ومثل هذا لا يخشى عليه من غوائل الدنيا ولا من عواقب الآخرة. إن مثل هذا الإنسان إنما يعيش مع القيم والأفكار والمبادئ والمثل ولا يعيش مع الأهواء والشهوات والطمع والعدوان، ولا بد من أن نعود لنذكر بأن كل هذا وإن ثبت كسب الإنسان له إلا أنه لا يكون إلا بتوفيق الله وعصمته وهدايته وحفظه، ولذا فإن أول خطوة يخطوها المرء في طريق هدايته ونجاته هو الافتقار إلى الله تعالى وطلب العناية والهداية والعصمة منه.