مغتربون متقاعدون يشغلون غرفا في فنادق باريسية يقضون يومياتهم في التجوال بين شوارع عاصمة الجن و الملائكة والعلاج في مستشفياتها، وشباب التحقوا بموجات المهاجرين بحثا عن حلم تبخر بمجرد الالتحاق بمواكب المهاجرين تحت سماء مدينة لا تعترف بالرحمة.. أجيال من المغتربين تختلف أهدافها لكنها تتقاسم يوميات صعبة لهثا وراء خبز حاف وعينهم على ما يجري في الوطن. روبورتاج فارس قريشي عندما وطئت قدماي مطار شارل ديغول بباريس، في صبيحة يوم بارد من شهر فيفري المنصرم، تبادر إلى ذهني لأول وهلة سؤال تحول سريعا إلى عدة أسئلة، عن الحالة التي يعيشها المغتربون الجزائريون في فرنسا، و هل فعلا هي الجنة الموعودة التي يحلم بها الكثير من الشباب في هذه الأيام، و يداعبون حلم الوصول إليها طيلة سنوات، مستعجلين قطع حبل الوصال مع الوطن الأم والهجرة إلى بلد الجن و الملائكة. لم تكن حياة المغتربين الذين قضوا سنين طويلة في فرنسا أحسن حالا من وضعية شبان هاجروا للعمل في باريس، و تلاشت سريعا من خيالهم صور الحياة الوردية و العيش الرغيد، و قد انطفأت أيام الكثير من رفاقهم على ظهر قوارب الحرقة و انتهت مغامرتهم إلى مجرد جثث وأشلاء على الضفة الأخرى من المتوسط . لعل أكثر ما تسلل إلى نفسي وأنا بصدد الولوج إلى المدخل المؤدي إلى فندق أوربا الكائن ب 10 شارع لويس بوني بالمدينة الجميلة بالعاصمة باريس، هو شعور مستفز بالغربة، إحساس كاد يفقدني توازني ويدعوني إلى استعجال العودة إلى موطن الشمس والدفء، هنا لسعات البرد تحيطك من كل جانب وتجعلك كذلك تستشعرها في كل الأمكنة، و حتى الوجوه التي تصادفها من أبناء البلد الذين يجتمعون كل ليلة بعد جري مثل الوحوش طيلة النهار يجتر يومياتهم ولا يتوقف في هذه المدينة الكبيرة التي ضلت تحمل ولا تزال بين طياتها وفي شوارعها الخلفية وفيما وراءها الشيء الكثير من أوجاع الغربة والمغتربين الجزائريين، الذين يبقى حلمهم الأوحد العودة إلى أرض الأجداد وموطن الطفولة والصبا والشباب، ومغادرة مدن الضباب والوحشة و لسان حالهم يقول "هذه جنتكم ردت إليكم". أضواء باريس لم تله عن الشغف بالوطن سحر العاصمة الفرنسية باريس وشوارعها وإغراءاتها لم تمنع الحنين إلى الوطن أو(لبلاد) كما يحلو للجزائريين في فرنسا تسمية بلدهم من أن يتسرب إلى وجدان و فؤاد جاليتنا بمختلف مكوناتها، من المتقاعدين الذين استقر بهم المقام في ديار الغربة أو المهاجرين الشباب الذين اختاروا المكوث في عاصمة الجن والملائكة بعدما عثروا على فرص للعيش بعيدا عن الأهل، فجعلوا لأنفسهم عائلات جديدة بعد أن ارتبط الكثير منهم بمهاجرات بنوا معهن عش الزوجية. وجدان المهاجرين و المغتربين لم يتخلص من حب كل ما هو جزائري رغم كل شيء، حيث تتوقف عقارب الساعة مساء كل يوم أمام جهاز التلفاز، والهدف متابعة تفاصيل نشرة الثامنة في التلفزيون العمومي أين يتوقف الزمن بالجميع يتابعون نبض الوطن أولا بأول. في فندق أوروبا ب 10 شارع لويس بوني في بلفيل (المدينة الجميلة) بالعاصمة باريس الذي يمتلكه أحد الجزائريين من منطقة برج زمورة بولاية برج بوعرريرج يجتمع كل مساء عدد من الجزائريين المقيمين في العاصمة باريس وكثير منهم متقاعدون وتجار ورجال أعمال من مناطق مختلفة من الوطن، يروون حنينهم إلى "البلاد" من خلال متابعة الأخبار على قنوات التلفزيون الوطنية و خصوصا نشرة الثامنة على التلفزيون العمومي، حيث يصبح الصمت مع بدايتها قانونا يسري على الجميع إلى حين انتهائها، لينطلق الجميع بعدها في نقاشات وتحليلات للأخبار كل حسب تقديره ومستواه، غير أن نقطة التقاء هؤلاء تصب جميعها في الحديث عن تطورات الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الجزائر، هناك حيث الوطن و مشاعر الحنين التي تشدهم إليه في كل لحظة وحين، و هم يفكرون في قرارة أنفسهم حول سبل العودة إلى مرتع الأجداد في يوم ما. الحياة الصعبة حولت جنة الحراقة إلى جحيم تفاصيل الحياة اليومية في باريس ليست بالسهولة التي يعتقدها الكثير من الشباب الجزائريين، الذين يحلمون بالحرقة أو أولئك الذين ارتموا في أحضان الغربة، حيث أن سعر الليلة الواحدة في فندق الشلالات بشارع الجمهورية مثلا، والذي هو ملك لأحد المغتربين الجزائريين و يصنف في خانة المرقد لا تقل عن 40 أورو أي بما يعادل 7500 دينار جزائري، أما ساندويتش "قرنطيطة" فيعادل سعره 800 دينار جزائري، و يصير الحديث عن تناول وجبة غداء في مطعم بمثابة أمر في أحيان كثيرة بعيد المنال، أو على الأقل من الترف الذي ليس متاحا كل يوم لجميع المهاجرين. مشاهد الحراقة تحديدا وهم يتسولون سيجارة أو ما يسد رمقهم أكثر إيلاما، تبعث في القلب الكثير من الأسى والحزن على هذه الأوضاع المستفزة لقيم و كرامة الجزائريين في الخارج. كانت فكرة ترتيب أوراقنا وسقي مساحاتها بالحبر الأسود قد راودتنا خلال زيارتنا للعاصمة باريس ، حيث أردنا جس نبض أبناء الوطن و نقل ولو البعض من هموم فئة قضت سنوات شبابها في ديار الغربة وطال بهم المقام هناك، لكن رؤية الشباب الذين رمت بهم أمواج البحر في الجهة الأخرى و هم يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة، جعلت نقل صور عن يوميات المغتربين واجبا. مغتربون متقاعدون يشغلون غرفا في فندق أوروبا يقضون يومياتهم بين التجوال في شوارع باريس والعلاج في مستشفياتها وفي آخر النهار يعودون إلى الفندق أين يجتمعون ليلا بعد العشاء في قاعة الاستقبال، يضبطون عقارب ساعاتهم على نشرة الثامنة بالتلفزيون الجزائري، يتابعون بكثير من الشغف والاهتمام كل تطورات البلد، حيث يذرفون دموع الحزن وينشرونها في أرجاء الفندق، لتصير جدران المبنى والمكان شاهدة على قصة عشق حزينة تجمع بين هذا الغريب الذي تقدم به العمر و وطنه الذي يشتاق أن يحتضنه ذات يوم و لو تحت التراب. شيوخ مسنون يتحدثون عن أوجاع الوطن وعن أفراحه أيضا، عن بورصة العملة التي تشغل بالهم يوميا، حيث يتابعون أسعار الصرف خطوة بخطوة ويوما بيوم، و يتخلون عن الحديث على مآسيهم وشجونهم ومشاكلهم الصحية وظلم الزمن، الذي ألبس رؤوسهم بياضا عندما يتعلق الأمر بما تدره عليهم عملية تحويل و صرف منحة التقاعد، فهي مبرر تواجدهم هنا في صقيع الغربة و من أجلها أفنوا سنوات شبابهم عاملين بكد في بلاد الآخرين. هنا في فندق أوروبا تحضر مختلف مدن الجزائر وتختلط الجغرافيا بالتاريخ لتتشكل فسيفساء من دون لون تجمع تجار الألبسة ورجال الأعمال والمهاجرين والمتقاعدين من سطيف، برج بوعريريج، المسيلة و مستغانم، تيارت و وهران، و تصير قاعة استقبال الفندق كل مساء أين يدور النقاش حول وضعية و واقع البلد، صورة مصغرة عن الجزائر بكل تنوعاتها و مناطقها. يحملون همومها و يبدون تفاؤلا بكل التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعرفها الضفة الجنوبية من المتوسط على النقيض من كثير المقيمين بأرض الوطن الذين يحلمون بالجنة المستنسخة على أرض غير أرضهم. شيوخ بقوا في باريس مكرهين لحاجتهم إلى العلاج يجمع العديد من المهاجرين المتقاعدين الذين ألفوا الحياة في ديار الغربة بالرغم من اعترافهم بصعوبة العيش في هذه البلد، أن الحنين يراودهم دائما من أجل العودة إلى بلدهم الأصلي، لكن الظروف كانت أقوى بكثير من رغباتهم، فالحياة في باريس يقول هؤلاء توفر لهم الكثير من الإغراءات، لاسيما الصحية منها فظروف العلاج في مستشفيات فرنسا لمن هم في مثل سنهم تجعلهم مجبرين على البقاء هناك، حتى ولو أنهم بلغوا من العمر عتيا، على غرار عمي عيسى الذين ينحدر من إحدى ولايات الغرب الجزائري، و الذي يقيم في فندق أوروبا كلما قدم إلى باريس. يكشف عمي عيسى أن مشاكله الصحية فرضت عليه متابعة الفحوصات بين الفينة والأخرى بإحدى العيادات الطبية، وهو ما لم يجده في بلديته و لا في عاصمة الغرب الجزائريوهران، فقرر العودة إلى فرنسا بعد أن كان قد غادرها قبل سنوات ليعيش باقي أيام حياته في أرض الوطن، كان عازما على العودة إلى الجزائر دون رجعة، رغم تخلي أبنائه عنه و هم الذين ضاعفوا من أوجاعه بعد أن رفضوا مرافقته إلى بلد الأجداد. منافسة شرسة من الصينيين في الفنادق و المطاعم و على العكس من حالة عمي عيسى، استقر حال الصغير و هو الشقيق الأصغر لصاحب الفندق رفقة باقي أفراد العائلة بالمدينة الجميلة، حيث يصارعون من أجل الإبقاء على الفندق مفتوحا، في ظل المنافسة الشرسة التي يقوم بها المهاجرون الصينيون الذين استحوذوا على العديد من الفنادق بهذه الجهة من العاصمة باريس، وعلى كثير من المطاعم بعدما كانت تلك الأنشطة مصدر رزق الجالية الجزائرية و المغاربية في فرنسا. زاحم المهاجرون الصينيون والفيتناميون أفراد الجالية التونسية والجزائرية المتواجدين بكثرة في عدة نواحي من باريس و قاموا بشراء عدد من المطاعم والمقاهي والفنادق، ثم أعادوا تأهيلها على الطريقة الآسيوية القديمة و تزايدت متاعب المهاجرين و ذويهم الذين يقتاتون من خدمات بسيطة يقدمونها لبني وطنهم غالبا. يقول عمي الصغير أن علاقتهم بوطنهم يجسدونها في حفاظهم على هويتهم و دينهم وعلى تقاليدهم التي يمارسونها في حياتهم اليومية وحتى مع أبنائهم، الذين حرصوا على غرس قيم و مبادىء هويتهم الجزائرية في نفوسهم، وتبرز انفعالاتهم حيال كل ما يتعلق بالجزائر من خلال رفضهم لكل ما يمكن أن يمس باستقرار البلاد. أثناء حديثنا مع الصغير تدخل مهاجر متقاعد يتحدث بلهجة إحدى الولايات الشرقية قال بكثير من الاستياء أن هناك محاولات يائسة لإشعال نار الفتنة في الجزائر، بعدما اطلع في نفس اليوم على تقرير صحفي رسم صورة سوداء عن البلاد، و عن المخاوف من مرحلة ما بعد البترول، على خلفية تقلص الموارد المالية للجزائر. كان يتمتم بكلمات غير مفهومة و يتوقف لفترات متقطعة وكأنه يجد صعوبة في هضم استفزازات الدولة الفرنسية لبلد الشهداء، وعلى يد بعض أبنائها من صحفيين وكتاب يحللون مستقبل بلدهم من وراء البحار. اعتبر هذه التصريحات طعنة في قلب كل جزائري حر، حتى و لو كان مهاجرا دفعته ظروفه إلى البعد عن وطنه. يذكر عمي عيسى المغترب الذي عاد إلى فرنسا مكرها أن وجع الغربة لا يقاس أبدا بوجع الوطن، فلا يمكن بأي حال من الأحوال مثلما يضيف تحمل أن تنزف أرض الشهداء مجددا بعد سنوات طويلة من التضحيات خلال الثورة التحريرية، و أثناء عشرية الدم التي لا تزال آثارها ومخلفاتها في الذاكرة، يقول عمي عيسى و في ذاكرته أحداث عقود طويلة و على لسانه حكمة السنين أن العيش بعيدا عن نصفنا الآخر و إن كان قدرا، فان حبنا له خيار لا جدال فيه.