الجزائر أمام تحدي الاستقلال الاقتصادي تحيي الجزائر غدا الذكرى ال 54 لاسترجاع السيادة الوطنية وهي تقف على قمة من التحديات، أبرزها التحدي الاقتصادي الذي دفعت به الأزمة المالية والاقتصادية الناتجة عن انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية منذ ما يزيد عن العام والنصف، والتي أثرت بشكل واضح على الوضع الاقتصادي العام في البلاد. وإذا كان الطابع التاريخي والملحمي والعاطفي يغلب على الاحتفال بالخامس جويلية من كل سنة، فإن الواقع المعيشي اليوم يفرض على الجميع التفكير في التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد اليوم بعد 54 سنة من الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية، لأن الجانب الاقتصادي جزء مهم من السيادة الوطنية خاصة في ظل الظروف العالمية الحالية. وبالرجوع لأدبيات الحركة الوطنية عبر مختلف مراحلها نجد أن الأولوية التي أعطيت للجانب السياسي التحرري كانت بحكم الاستعمار والقهر الذي كان مسلطا على الشعب الجزائري برمته، لكن الحركة الوطنية لم تغفل أبدا الجانب الاقتصادي الذي لم يكن منفصلا عن الجوانب الأخرى في المعركة التي قادتها ضد الاستعمار الفرنسي البغيض. و إذا كان التاريخ والذاكرة من اختصاص المؤرخين واساتذة الجامعات والباحثين ، فإن الواقع المعيشي يفرض على الجميع الاهتمام بالجانب الاقتصادي للبلاد ونحن نحي هذه المناسبة العزيزة على الجميع. و اليوم وبعيدا عن معارك التاريخ والذاكرة فإن التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد تبدو كبيرة خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية و المالية الراهنة الناتجة عن تراجع أسعار النفط في السنتين الأخيرتين، وهو الذي يعد المدخول الاساسي للجزائر. والحديث عن الجانب الاقتصادي والتحديات التي يجب رفعها في هذا مجال لا يعني أن جزائر الاستقلال لأغفلت هذا الجانب بشكل مطلق، بل أن الواقع يؤكد أن الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال أولت اهتماما بالغا لهذا الجانب لأنه عصب الحياة، وقد مرت الجزائر منذ سنة 1963 على نماذج اقتصادية عديدة بررتها طبيعة المرحلة، وكذا الوضع العام لعموم الجزائريين الذين خرجوا من حرب تدميرية كبيرة أتت على الأخضر واليابس، وقضت بشكل كامل على المؤسسة الاقتصادية الجزائرية التقليدية التي كانت قائمة قبل دخول الفرنسيين أرض الجزائر، كما قضت على جميع علاقات الجزائر بمحيطها وتعاملاتها الاقتصادية مع الدول الأخرى في المتوسط وغيرها. ومن هذا المنطلق اعتمد الخيار الاشتراكي في السنوات التي تلت الاستقلال، ولم يكن حسب معطيات ذلك الوقت اتباع طريق الرأسمالية وأغلبية الشعب الجزائري لا تملك ما تأكل، ثم جاء عهد الثورات الفلاحية والصناعية والثقافية، و بعدها جاء عهد التصحيح الهيكلي لآليات الاقتصاد الوطني ووسائل الانتاج، ومهما يكن فإن محاكمة هذه الخيارات وتقييمها من اختصاص المختصين والخبراء في المجال الاقتصادي. النموذج الاقتصادي الجديد.. الأمل.. و لمواجهة التحدي الاقتصادي المطروح اليوم بالإلحاح قررت الجزائر قبل الاحتفال بالخامس جويلية هذا العام الإعلان عن نموذج اقتصادي جديد لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية التي خلفها انهيار أسعار البترول، هذا النموذج الذي أعلن عنه الوزير الأول عبد المالك سلال قبل شهر بالتحديد خلال لقاء الثلاثية الأخيرة مع الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين. وقد ساندت الثلاثية بجميع أطرافها في ذلك الوقت السلطات العمومية في مسعاها الرامي إلى وضع نموذج جديد للنمو والتدابير التي يتعين اتخاذها لتجسيده، سيما منها التوجه نحو سياسة استثمار اقتصادي كفيلة بتثمين الاستثمار وتعزيزه، والاستمرار في انتهاج سياسة صناعية عبر تنويع اقتصاد قائم على تنافسية القطاعات والفروع والأقاليم، والدعم المتواصل للتنمية الفلاحية من منظور تحسين الإنتاج و الإنتاجية، وتدعيم الصناعة الزراعية الغذائية وعصرنة المستثمرات والتحكم في التكاليف، وكذا الانطلاق في اقتصاد جديد للخدمات. ويقوم النموذج الاقتصادي الجديد أيضا على تسهيل الاستثمار من أجل ترقية التشغيل، وقد اتخذت الحكومة في هذا الصدد تدابير هامة مؤطرة لدعم وترقية المؤسسة الاقتصادية وكذلك برامج تبسيط وتحسين المناخ الإداري والتنظيمات المرتبطة بالعمل الاستثماري. ويرمي النموذج الجديد كذلك حسب ما أعلن عنه الوزير الأول في لقاء الثلاثية إلى الخروج التدريجي من التعبية المطلقة للمحروقات، وألح على شركائه على ضرورة تحقيق نسبة تصدير خارج المحروقات تصل إلى 9 بالمائة مع نهاية السنة الجارية، وقال سلال أن ذلك ممكن وهو الذي سيعبد طريق المستقبل، مضيفا أن النموذج الاقتصادي الجديد قائم على نظرة براغماتية دون الارتباط بأي إيديولوجية وهو مرتبط فقط بالمكتسبات الاجتماعية و مواصلة الإصلاحات، و اليوم تستعد الحكومة للمصادقة على هذا النموذج و العمل رفقة كل المعنيين من ولاة وإدارات و أرباب عمل ونقابات وجميع الجزائريين على تجسيده في الميدان. وفضلا عما سبق ذكره تضمن النموذج الاقتصادي الجديد أيضا إطلاق قرض سندي سمي « القرض الوطني للنمو الاقتصادي» وهو يرمي إلى جمع الأموال من مدخرات الشركات والمؤسسات الوطنية العمومية والخاصة، وكذا من مدخرات الخواص والأفراد من أجل تمويل بعض المشاريع الوطنية، بدلا من اللجوء إلى الاستدانة الخارجية، وهذه الطريقة ترمي إلى تفعيل جزء من أموال الجزائريين الموجودة في الخزائن و إخراجها إلى السوق واستعمالها في مشاريع ذات منفعة عمومية، وهذه العملية التي لا تزال متواصلة شهدت قبل أسبوع فقط مشاركة منتدى رؤساء المؤسسات الذي تمكن من جمع 1.5 مليار دولار في هذا الإطار بالموازاة مع ذلك أطلقت الحكومة قبل أكثر من سنة عملية واسعة لإعادة إحياء النسيج الصناعي الوطني الذي شهد تدهورا وإغفالا كبيرا في العقود الماضية، وهذا بتفعيل العديد من الصناعات الوطنية التي كانت البلاد رائدة فيها، وفتح مصانع جديدة وإعادة بعث مناجم كانت مغلقة، في إطار حلقات تكمل بعضها البعض، بالشكل الذي يؤدي إلى خلق شبكة من المؤسسات الكبيرة وأخرى من مؤسسات المناولة تدور في فلكها وتكملها. لكن وعلى الرغم من هذه الجهود فإن التحدي الاقتصادي يبقى قائما مالم نأكل ما نزرع وما لم نلبس ما نصنع كما يقال، على الرغم من أنه لا توجد أمة فوق الأرض تحقق الاكتفاء الذاتي في كل شيء، وبالنسبة للجزائر فإن ما تملكه من إمكانات قادرة على جعلها قوة اقتصادية إقليمية، وهي لم تستغل بعد كل هذه الإمكانات بالقدر المطلوب. وفي الأخير فإن تحقيق الاستقلال الاقتصادي ولو جزئيا يعد أمرا مهما بالنسبة للاستقلال السياسي الذي جاء بدماء ملايين من الشهداء على مدى 132 سنة. م- عدنان المؤرخ محمد لحسن زغيدي للنصر لا يمكن أن نكتب تاريخنا اعتمادا على وثائق فرنسية غير موثوقة لا تعكس في أغلبها الحقيقة مطالبة الجزائريين بالتعويضات عن جرائم الاستعمار حق لا يسقط بالتقادم حذر الباحث و المؤرخ الدكتور محمد لحسن زغيدي من خلفيات مطالب الأقدام السوداء باسترجاع ممتلكاتهم المزعومة في الجزائر، و قال أن مجرد إثارة هذا الملف يعد خيانة لسيادة الدولة ولدم الشهداء. و دعا من جهة أخرى، إلى الاعتماد على الأرشيف الجزائري في تدوين تاريخ الثورة، بدل الأرشيف الفرنسي، لأنه لا يمكن بحسبه، أن نكتب تاريخنا من وثائق فرنسية غير موثوقة أو مزورة لا تعكس في أغلبها الحقيقة. ودعا الدكتور زغيدي في حديث للنصر، بمناسبة إحياء الذكرى ال 54 للاستقلال، المصادفة ليوم 5 جويلية، الباحثين إلى ضرورة مطابقة الوثائق والتقارير الفرنسية مع الواقع، خاصة تلك التي تدون لفترة دخول المحتل إلى الجزائر، ثم ظهور حركات المقاومة، وهي الحقبة التي لم تكن فيها إدارة توثيقية للمقاومة، حيث كان المحتل فقط من يعد التقارير، ويصدر الصحف، ما يجعل الباحثين في حاجة ضرورية للأرشيف الفرنسي، عكس الحقبة التي شهدت ميلاد الحركة الوطنية ثم الثورة التحريرية، التي برزت فيها صحافة وطنية، تابعة لحزب الشعب ولجمعية العلماء المسلمين، وكانت توثق لتلك المرحلة التاريخية الحاسمة، مصنفا الأرشيف الذي تحوز عليه فرنسا والموجود حاليا بقصر فرساي إلى نوعين، أرشيف فرنسي فرنسي، وكان يخص الإدارة الفرنسية المدنية والعسكرية، وكذا أرشيف الثورة الذي حصلت عليه فرنسا أثناء المعارك وعمليات الاستنطاق والمداهمات والتمشيط، وهي حصيلة هامة تمتد من سنة 54 إلى سنة 62 تاريخ الاستقلال، وهو متنوع ويخص كل مناطق التراب الوطني، على اعتبار أن فرنسا فتحت جبهة ضد جيش التحرير، والمصالح المدنية التابعة له، ممثلة في الفدائيين والمسبلين الذين كانوا يحوزون على وثائق ومراسلات، وأخرى ضد الشعب الذي كان يساند الثورة، من خلال إطلاق حملات التفتيش والاعتقال والسجن والتعذيب، لعزل الشعب عن جيش التحرير، علما أن الإدارة الفرنسية فتحت المجال أمام الباحثين الجزائريين منذ سنة 2012 للاطلاع على الأرشيف، والاستعانة به في تدوين التاريخ. كما قامت وزارة المجاهدين من جهتها، بإنشاء لجنة لاسترجاع الأرشيف الجزائري في فرنسا، وهي المبادرة التي رحب بها الدكتور زغيدي، لكنه تساءل عن إمكانية الاعتماد عليه في تدوين فصول الثورة التحريرية، لأن من زور التاريخ والجغرافيا ليجعل الجزائر فرنسية، لا يصعب عليه أن يزور وثيقة تاريخية، وأن من يحتفظ بأدمغة ورؤوس قادة الثورة و المقاومات الشعبية، ويحرمها من الدفن في الأرض، لا يمكن الوثوق فيما يتصدق به علينا من أرشيف لنكتب تاريخنا، "فهل يعقل أن تعطينا فرنسا ما يؤذيها ويشينها، ويبين كم كان المستعمر مجرما، لأنه دمّر الشعوب وهجّرها وجعل البلدان امتدادا جغرافيا لفرنسا". ودعا الباحث في التاريخ المؤرخين الاعتماد على الأرشيف الوطني، بحكم التجربة والمهنة، مؤكدا أن ما يضمه المتحف الوطني للمجاهد لا يمكن الاستهانة به، باعتباره البنك الأساسي لتاريخ الثورة، فهو يضم مئات الآلاف من الوثائق التي قدمها المجاهدون طواعية منذ تأسيسه سنة 1974، فضلا عن وثائق جمعية "المالغ"، التي تشمل كل ما هو دبلوماسي و له علاقة بالاستعلامات، وكذا وثائق الحكومة المؤقتة وجيش التحرير، وهي كلها وثائق أصلية لا غبار عليها، إلى جانب آلاف الشهادات التي سجلها المجاهدون، مذكرا بأن وزارة المجاهدين قامت بتدعيم محتوى المتحف سنة 84 ثم 94 ثم 2004 بوثائق جديدة، من خلال إطلاق حملة استهدفت من عاشوا تلك الحقبة الهامة في تاريخنا. ويرى الأستاذ في جامعة الجزائر، بأننا لسنا في حاجة إلى أرشيف هو تحت يد مزورة، وآثمة وملطخة بدماء الجزائريين، وموروثة لأبنائها الذين لم يعترفوا ولم يتأسفوا لبناء صفحة جديدة، مع دولة ذات سيادة انتصرت على فرنسا في 5 جويلية 1962. حقّ الجزائريين في التعويضات قائم و لا يسقط بالتقادم وبحسب الأستاذ زغيدي، فإن تجنّد المجتمع المدني ضروري لإجبار فرنسا على تعويض ضحايا جرائمها في الجزائر، من خلال الضغط ومساندة أحرار العالم وفضح فرنسا عما تركته من بذور الموت، عبر زرع الألغام والإشعاع النووي في الحدود الشرقية والغربية، لتنصب لها محاكم وطنية ودولية، مع استدراج النزهاء من شرفاء أبناء فرنسا نفسها، ليقول القضاء الدولي كلمته. و حتى يقول القضاء كلمته، يجب أن تتصاعد الشكاوى إلى المحاكم الدولية للضغط والاعتراف، على غرار ما تم القيام به من قبل اليابانيين للحصول على تعويضات نظير الخسائر الفادحة التي سببتها قنبلتي هيروشيما ونكازاكي، فحق الجزائريين في التعويضات جراء ما لحقهم من جرائم استعمارية، حق قائم و لا يسقط بالتقادم. واستهجن زغيدي مطالبة الأقدام السوداء باسترجاع ممتلكاتهم المزعومة في الجزائر، مصرا على شرح مصطلح الأقدام السوداء أولا، و قال هم المجندون والأشخاص الذين كانوا يعيشون على هامش المجتمع، والذين جاءت بهم فرنسا في القرن التاسع عشر من النقاط الأربع لأوروبا، وتم تهجيرهم خلال قرن كامل، لبناء دولة استيطانية امتدادا لفرنسا، ومكنتهم من أخذ الأراضي الجزائرية غصبا، بموجب قوانين الاحتلال والتهجير وترحيل الملاّك الأصليين، لذلك فإنه كل ما بني على أرض هو لأصحابها، فهي أراضي متوارثة، إما أعراش أو حبوس أو أملاك خاصة، فصل بيان أول نوفمبر فيها، حيث جاء فيه " إن كل المصالح الفرنسية الثقافية والاقتصادية والمحصل عليها بنزاهة ستحترم"، وهو ما أكده مؤتمر الصومام، وتساءل المتحدث " هل توجد مصالح تم الحصول عليها بنزاهة في أرض محتلة؟"، فالغاصب تحرر منه المغتصب بمليون ونصف المليون شهيد، وما أخذته فرنسا من خيرات مدة 132 سنة، والخسائر البشرية التي فاقت 10 ملايين شهيد، فضلا عما اغتصبه من لغتنا وثقافتنا وشخصيتنا، لذلك فإن تعويض الأقدام السوداء هو خيانة لسيادة الدولة ولدم الشهداء، وأن فتح باب التعويض لفرنسا، التي لا تقنع، سيجعلها تتمادى إلى أن تسترجع كل الجزائر، وهو شعار الأقدام السوداء واليمين الفرنسي اليوم، والمنظمة السرية المسلحة. لطيفة بلحاج سقطات دبلوماسية وتصريحات مستفزة مازالت تعكّر صفو العلاقات بين البلدين فرنسا تفضل الاعتذار للحركى وترفض الاعتراف بجرائمها الاستعمارية اختارت فرنسا مرة أخرى وكما هو الحال عند أي مناسبة تاريخية التحايل والالتفاف، والتزام الصمت إزاء جرائمها الاستعمارية، وهي الدولة التي سنّت قانونا لتجريم مجازر الأرمن، وتدافع عن حقوق الأرض والشعوب، لكنها تفقد ذاكرتها عندما يتعلق الأمر بالجزائر، وفي الوقت الذي انتظر فيه الجزائريون، عشية الاحتفال بالذكرى ال 54 للاستقلال، اعترافا فرنسيا صريحا، خرج ساسة باريس للإعلان عن تنظيم احتفالية لتكريم الحركى. يحيي الشعب الجزائري، يوم الثلاثاء محطة مفصلية وخالدة في كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي، محطة تعيد إلى الواجهة مطلب الجزائريين الذي لن يتوقف، باعتراف فرنسا بجرائمها الاستعمارية، والاعتذار عن كل تلك الجرائم التي اقترفها المستعمر على مدى 132 سنة من الاحتلال. وتحاول فرنسا في كل مرة القفز على ماضيها الاستعماري في الجزائر بحجة التطلع إلى المستقبل وترك مسألة الذاكرة للمؤرخين، وترفض الاعتراف بجرائمها خلال الحقبة الاستعمارية مثلما ترفض الاعتذار عن هذه الجرائم، وهو موقف ظل على الدوام مصدر تشنج في العلاقات بين البلدين. فرنسا التي كانت في كل مرة تطرح فكرة «الاعتراف المتبادل» أي المساواة بين الجلاد والضحية، تجاوزت هذه المرة كل حدود «اللباقة السياسية» بإعلانها عن تكريم رسمي للحركى الجزائريين إبان الثورة، وذلك عشية احتفالات عيد الاستقلال، في خطوة استفزازية تكشف بما لا يدع أي مجال للشك، بأن الاعتراف بالذنب ليس مطروحا على أجندة أصحاب القرار في فرنسا. ويرى محللون، بأن اختيار فرنسا، لهذا الموعد لتكريم الحركى، هو بمثابة استفزاز واضح وصريح للجزائريين، خاصة وأنه يتزامن مع الاحتفالات بعيد الاستقلال الوطني، ويندرج أيضا في إطار مواصلة مسلسل محاولة ضرب الذاكرة الوطنية والكفاح ضد الاستعمار الفرنسي الذي لا تزال فرنسا الديمقراطية تتهرب وترفض الاعتراف بجرائمها البشعة التي ارتكبتها في الجزائر على مدار 132 سنة كاملة، وما يثير أكثر من علامة استفهام في هذا التكريم للحركى الجزائريين تخصيص يوم وطني لتكريم هذه الفئة في 25 سبتمبر من كل عام. وقبل ذلك أشار الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند علناً شهر ماي الماضي، إلى ما سماه المجازر التي ارتكبت ضد الأقدام السوداء و المقاتلين الجزائريين الذين اعتبرهم ضحايا بعد التوقيع على اتفاقيات إيفيان في 19 مارس 1962، وهي التصريحات التي اعتبرتها وسائل إعلام فرنسية بمثابة التفاتة تجاه هاتين الفئتين. وبادر في فيفري الماضي نواب فرنسيون بينهم جمهوريون من حزب نيكولا ساركوزي، لاقتراح مشروع قانونين يتعلقان بالاعتراف بمسؤولية فرنسا في التخلي عن الحركى بالجزائر، وإلغاء تاريخ 19 مارس كيوم وطني للذكرى والترحم على ذاكرة الضحايا المدنيين والعسكريين لحرب الجزائر ونضالي تونس والمغرب . ويجمع السياسيون بل وحتى كبار المسؤولين في الدولة، بأن العلاقات بين الجزائروفرنسا لن يكتمل عقدها إلا عند اعتراف باريس بالجرائم التي اقترفتها فرنسا الاستعمارية ضد الجزائريين، وبعد الاعتراف يأتي الاعتذار، مطلب أكده مؤخرا وزير المجاهدين، حيث صرح بأن العلاقات الجزائرية الفرنسية لن ترقى إلى أعلى مستوياتها إلا بمحور التاريخ و الذاكرة الوطنية في إشارة إلى ضرورة اعتراف فرنسا بجرائمها المرتكبة خلال الاستعمار. وأضاف أن العلاقات السياسية والاقتصادية الموجودة بين الجزائروفرنسا لم تنس لكن الملف الشائك والحساس الذي يكاد يلغم هذه العلاقات هو ملف الذاكرة والتاريخ». ورغم الإشارات والعبارات التي استخدمها مسؤولون فرنسيون في الفترة الأخيرة، وفي مناسبات تاريخية، والتي قد توحي للوهلة الأولى بحدوث تطور في الموقف الفرنسي فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة ضد الجزائريين، إلا أن الوقت كشف بأن كل ما صدر عن الفرنسيين، سواء تعلق الأمر بتدابير قانونية، أو تصريحات لكبار المسؤولين في الدولة لا ترقى إلى درجة الاعتراف والاستجابة للمطلب الذي يرفع وينادي به الجزائريون، وهو إقرار بالجرم المرتكب ضد الجزائريين، وطلب العفو والاعتذار. ويجمع الحقوقيون والمؤرخون، بأن الجرائم التي ارتكبتها فرنسابالجزائر إبان فترة الاحتلال لن تسقط بالتقادم، ويؤكدون على ضرورة اعتراف السلطات الفرنسية بتلك الجرائم، والاعتذار والتعويض للشعب الجزائري عن الوحشية الاستعمارية. خاصة وأن فرنسا ‘نوعت في جرائمها ضد الجزائريين فارتكبت جرائم ضد الإنسانية وضد الدين واللغة والاقتصاد، ويؤكدون بأن مطالبة فرنسا بالاعتراف والاعتذار والتعويض عن جرائمها إبان الفترة الاستعمارية ‘'مطلب شرعي'' و''حق تاريخي››. سقطات بالجملة تعري الوجه «القبيح» للسياسة الفرنسية إعلان باريس عن احتفالها بالحركى، عشية احتفالات عيد الاستقلال، جاء ضمن سلسلة من السقطات الدبلوماسية والسياسية والتي كان لها أثر سلبي على العلاقات بين البلدين، طيلة الأشهر القليلة الماضية، وتحولت إلى حملة إساءة للجزائر، وبدأت تلك الحملة عبر وسائل الإعلام لتنتقل فيما بعد لنواب بالبرلمان الفرنسي ومسؤولين و كذا وزراء خاضوا بنوايا سيئة في قضايا كثيرة تهم الشأن الداخلي الجزائري، كما عمدت بعض وسائل الإعلان في فرنسا في الفترة الأخيرة إلى استضافة نشطاء في حركة «الماك»، وقبل ذلك طرح نائب في البرلمان الفرنسي سؤال على حكومة فالس للاحتجاج على ما اسماه «التضييق على حقوق الأقلية الامازيغية في الجزائر». ولم تتوقف هذه الحملة عند هذا الحد، بل امتدت إلى حد المساس برمز من رموز السيادة الوطنية، عبر حلقات تلفزيونية، وعمدت صحيفة «لوموند» إلى إقحام صورة الرئيس في مقال حول تسريبات وثائق «بنما» قبل اعترافها بأن اسم الرئيس لم يرد في تلك الوثائق. و وجدت وسائل الإعلام في فرنسا، في الصورة التي بثها مانويل فالس على حسابه على موقع تويتر وقودا إضافيا لتغذيتها، و تواصلت تلك السقطات مع التصريحات التي أدلى بها السفير الفرنسي بالجزائر بولاية تيزي وزو بخصوص منح التأشيرات، حيث أعطى انطباعا بأن بلاده تسير ملف التأشيرات وفق طابع ومنطق جهوي. بدوره خاض الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي في ملف العلاقات بين البلدين بكثير من الاستفزاز وقليل من الدبلوماسية والحياء وهو المتهم في قضايا تمويل غير شرعي لحملته الانتخابية السابقة، وراح ساركوزي يتحدث عن مخاطر تتهدّد الجزائر بسبب تراجع أسعار المحروقات، ودعوته لتعديل اتفاقيات ايفيان، لإلغاء الامتيازات التي يتمتع بها الجزائريون، وهي كلها تصرفات وتصريحات، عكرت صفو العلاقات التي دامت أكثر من أربع سنوات، ودفعت كثيرين إلى التساؤل عن السبب الحقيقي الذي يقف وراء هذه الحملة الفرنسية غير المبررة في هذا الوقت بالذات. وردت الجزائر بشدة على تلك التصريحات، التي وصفتها ب»المؤسفة» وعمدت إلى استدعاء السفير الفرنسي، وأبلغته احتجاجا شديد اللهجة بسبب «الحملة الإعلامية العدائية المضللة التي تستهدف الجزائر ورموزها»، كما قال وزير الداخلية نور الدين بدوي إن هناك خطوطا حمراء لا يجوز للإعلام الفرنسي أن يتجاوزها. كما ردّ الوزير الأول عبد المالك سلال، على تصريحات ساركوزي، بخصوص الوضع الاقتصادي، وقال سلال «إن الجزائر تنتهج سياسة واضحة وتسير في الطريق السليم». وأضاف قائلا : «عكس تصريحات بعض المسؤولين الأجانب الذين يحاولون زرع الشكوك حول إمكانية انهيار الجزائر ودخولها في المشاكل بسبب تراجع مواردها البترولية، فإن الجزائر لن تنهار». فرنسا « تبكي» على الأرمن وتتناسى جرائمها في الجزائر الفرنسيون من جهتهم يتفننون في اختلاق الأعذار والتبريرات للإفلات من واجب الاعتذار، وابتكروا في سبيل ذلك فكرة «الذاكرة الهادئة» أو في بعض الأحيان «الاعتراف المتبادل» وهي مصطلحات يستعملها الفرنسيون في تعاطيهم مع العلاقات الجزائرية في شقها التاريخي، لإزالة التشنج دون أن يصل ذلك إلى حد تقديم الاعتذار طالما أن كلمتي الاعتراف والاعتذار لم تدرجهما باريس في قاموسها السياسي والتاريخي. ساسة باريس قالوها صراحة بأنهم يريدون «اعترافا متبادلا» أي بعبارة أخرى المساواة بين الضحية والجلاد، ويعني هذا الطرح أن تعتذر الجزائر للجنود الفرنسيين الذين قتلوا على أيدي المجاهدين الثوار، وتفتح الجزائر بابها أمام الأقدام السوداء وكل الذين عملوا ضد الثورة، وتمكنهم من استعادة ممتلكاتهم. ويعني أيضا فتح الباب للحركى كي يزوروا الجزائر ويدفنوا فيها. و رغم مقترح «المقايضة السياسية والتاريخية» أو «الاعتراف المتبادل» الذي طرحه الفرنسيون، هناك الكثير من أنصار اليمين يرفضون الفكرة أصلا، واللافت أن الخطاب المتعصب الذي يرفض الحديث عن «الإقرار بالذنب» قد أصبح يلقى شعبية واسعة في فرنسا. ويتحدث كثيرون عن «الازدواجية الفرنسية» في التعامل مع الأحداث التاريخية، ففرنسا التي سنّت قانونا يجرم إنكار مزاعم «إبادة» الأرمن، ترفض حتى الآن الاعتراف ب"جرائمها الاستعمارية" في الجزائر، التي قتلت فيها 10 ملايين شخص. وقالت الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، أن تصرفات فرنسا تثير الدهشة "فهي تجرّمُ إنكارَ ما سُمي بإبادةِ الأرمن بعدما صوتت الجمعية العامة الفرنسية في سنة 2011 بأغلبية ساحقة على القانون، ولكن في نفس الوقت فرنسا تغضُ الطرف عن جرائمِها في الجزائر». وأكدت الرابطة أنه «لا يمكن للشعب الجزائري مهما طال الزمن نسيان جرائم فرنسا التي لمْ يسبق لهاُ مثيل عبر تاريخ البشرية، بعد قتل أكثر من 10 ملايين جزائري منذ أن وطأت أقدام الفرنسيين سنة 1830 أرض الجزائر». وأكدت الرابطة، أن السلطات الجزائرية مطالبة «بتشريع قانون يجرم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ومطالبة فرنسا بإعلان اعتذار رسمي واعتراف بالجرائم الدموية التي ارتكبتها في الجزائر، ثم التعويض المادي للضحايا وعائلاتهم بدل الاكتفاء بالاحتفالات بمناسبة ذكرى الاستقلال». ويؤكد مؤرخون، بأن استحواذ باريس وقرصنتها للأرشيف الجزائري، هدفه تقزيم وتحريف تاريخ الجزائر والحقائق الثورية وإخفاء صفحات سوداء من تاريخ فرنسا المليء بالمجازر وممارسات الإبادة الجماعية وبذلك ستتهرب من الاعتراف و الاعتذار و بالمقابل تبييض صفحات جيشها السوداء، على حساب حق الشعوب في كتابة تاريخها. وقد وافقت فرنسا على مضض إنشاء لجان مشتركة لمناقشة ملفات شائكة في العلاقات بين البلدين، وتم الاتفاق على تأسيس تلك اللجان خلال الزيارة التي قام بها وزير المجاهدين الطيب زيتوني، إلى فرنسا شهر جانفي الماضي، وتبحث تلك اللجان في ملفات المفقودين خلال حرب التحرير، وتعويض ضحايا التجارب النووية الفرنسية في الجزائر وكذا الجانب البيئي وملف الأرشيف.