بعض الروائيين يُقدمون كأولياء صالحين في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد عبد القادر رابحي عن كتابه النقدي الجديد «إيديولوجية الرواية والكسر التاريخي/ مقاربة سجالية للروائيّ متقنّعًا ببطله» الصادر مؤخرا عن منشورات دار الوطن اليوم ضمن سلسلة «كُتب الجيب». كما يتحدث عن الرواية التاريخية التي تُكتب بعيدا عن الفن والتخييل، وقال بأنها ستكون في هذه الحالة خطابا تاريخيا لا أكثر ولا أقل. مضيفا أن الروائي يحاول أن يعيد كتابة التاريخ، إذ لا يمكننا تصوّر رواية خارج التاريخ، لكن لا يمكنه أن يكتب رواية من منظور إيديولوجي مغلق. لأنّه في هذه الحالة سيسقط في بؤس قراءته للتاريخ على الرغم مما يمكن أن يوفره لعمله من إمكانات لغوية وأسلوبية وجمالية. حاورته/ نوّارة لحرش كتابك النقدي الجديد «إيديولوجية الرواية والكسر التاريخي/ مقاربة سجالية للروائيّ متقنّعًا ببطله» الصادر مؤخرا عن منشورات دار الوطن اليوم ضمن سلسلة «كتب الجيب»، كان عبارة عن دراسة اشتغلت على المسافة الفاصلة بين الرواية والروائي، أي بين الذات والنص. ما الذي يمكن أن تقوله عن هذه الفاصلة الشائكة/المتشابكة والملتبسة؟ عبد القادر رابحي: الحقيقة أن هذا الكُتيب الصغير الصادر في «سلسلة الجيب» عن دار «الوطن اليوم» هو في الأصل مداخلة قدمتها في أحد الملتقيات العلمية. وقد يكون هذا الحوار أطول منه لو أننا فصلنا في كلّ الإشكالات التي تطرحها أسئلتكم القيمة. وقد تعرضت فيه لإشكالية بدت لي مهمة بالنظر إلى ما تفرزه من تداعيات وما تنتجه من أفكار هامة ربّما لم ينتبه إليها الناقد المشتغل بجدية على الحقل الروائي بوصفه نصوصا بالدرجة الأولى -وهذا ما لا تدعيه هذه الوريقات ولا صاحبها-. ذلك أن المسافة بين النص والكاتب عادة ما تتأثث بصفة سريعة ومكثفة بكثير من الأفكار الناتجة عمّا يخلفه النص من آثار تظهر في الجدل النقدي بعد صدور العمل الأدبي من جهة، وعمّا يثيره الكاتب من ردود ومن سجالات بإمكانها أن تشكّل تصورا عن النص وعن صاحبه إضافة إلى ما ينتجه النص من تعريف كلّ منهما بالآخر. وهذه المساحة مهمة جدا بالنسبة للمشتغل في الحقل الثقافي. ويبدو لي أن هذه المساحة لم تُستغل لأجل رصد معرفة أخرى بما تنتجه السجالات المابعد نصيّة من قيم تتجاوز الأطروحات النقدية في مقاربتها للنصوص من حيث هي مراجع موثقة وأبطال متحركون وجماليات مؤثرة. الدراسة خاضت في سجالات البطل في الرواية. كيف ترى البطل وصورته وحضوره في تاريخ الرواية الجزائرية، ولماذا هو غالبا على نقيض مع الحادثة أو الوقائع التاريخية؟ عبد القادر رابحي: لا يمكنني الفصل في المسألة في كلّ الرواية الجزائرية. وقد لا تنطبق بعض وجهات نظر هذا الكُتيب على راهن الرواية بما هي متن ثري متعدد الرؤى ومنفتح على تجارب كتابية كثيرة. والحقيقة أن الكُتيب يتعرض لمرحلة كانت فيها الرواية الجزائرية تنتهي عند علمين أو ثلاثة من أعلامها وهم الجيل المؤسس للمتن الروائي وما أثاره هذا المتن من نقاشات أدبية ومن سجالات فكرية وإيديولوجية كوّنت لدى القارئ موقفا فكريا وجماليا من العمل الأدبي نفسه، وهذا بغض النظر عن المستويات الفنية والجمالية للنصوص التي كتبها هؤلاء. ولعل هذا ما رسّخ العمل الروائي وأبطاله في ذهن القارئ غير المختص فما بالك بالقارئ المختص. وهذا ما أدى كذلك إلى البحث عن المبررات التي أدت إلى ميلاد شخصيات ك»اللاز» و»بولرواح» في رواية «اللاز» للطاهر وطار، أو «عمر» و»حميد سراج» في «الحريق» لمحمد ديب بما يحملونه من تمركز إيديولوجي. ولعل ما يحمله البطل، في هذه الحالات، من وعي ثوري أو من وعي مضاد في الرواية بإيعاز متعمّد من الروائي نفسه، لا يقاربه القارئ بالوعي نفسه، ولا بالمواقف الإيديولوجية نفسها. إنّ مهمة الروائي أصلا هي صناعة أبطال على مقاس ما يريد تمريره من تصوّر للحادثة التاريخية. وهذا ما لا يمكن أن يتفق دائما مع واقعها أو مع قراءة الآخرين لها. لا يمكن تصور عمل أدبي دون خلفية إيديولوجية الدراسة تطرقت أيضا إلى الثنائية الشائكة «الرواية والإيديولوجية»، ماذا تقول عن هذه الموضوعة وفق سياقات تاريخ السرد في الجزائر، ولماذا هذه الموضوعة تحديدا ظلت مثار جدل ونقاشات تصادمية في أغلبها؟ عبد القادر رابحي: لا يمكننا أن نتصور عملا أدبيا لا يحيل إلى خلفية إيديولوجية. وهذه الأخيرة ليست دائما موقفا متمركزا كما كانت تدل عليه في سنوات السبعينيات حيث كانت الرواية رديف الخطاب السياسي وبوقه السمّاع ومرآته العاكسة، حتى وإن ألحت هذه المرآة على إظهار عيوب من تعكس في غفلة منه. ثمة نقد مبطن للنظام في هذه الروايات. ولكنّه ليس نقدا مخالفا. إنّه نقد يريد أن يتعالى على السلطة في مهادنتها للواقع. بينما هو يقارب الواقع من خلال صرامة موقفه من هذه المهادنة فيحاول أن يُظهر لها أخطاءها ويعلمها كيف تتفاداها. ولعله لذلك، نجد حضور شخصية المثقف الذي يعطي الدروس للجماهير غير الواعية. لقد تغيرت هذه الإشكالية في الممارسة الثقافية الآن نظرًا لتغير الزمن والرؤى والمقاربات. وربّما تعلمت الرواية الجزائرية كيف تؤدلج نصوصها من هذا السجال البناء الذي صنعته تلك المرحلة. أما الآن فلا يمكننا الحديث عن تجربة كالتي خاضها الطاهر وطار في كتاباته أولا، وفي واقعه ثانيا، وفي مواقفه كمثقف من السلطة ثالثا. لقد تغيرت الظروف وتغيرت معها مواقف الكُتاب من الواقع وتغيرت بذلك مستويات مقارباتهم له. مِمَا جاء في الكتاب قولك: «الروائي من أكثر المثقفين الجزائريين مراوحة بين إيديولوجية السلطة وسلطة الإيديولوجيا». كيف؟ عبد القادر رابحي: يبدو الروائي عموما وكأنّه يمسك بمفتاح الحقيقة الكبرى التي لا يستطيع غيره من المثقفين إدراكها فما بالك بالإمساك بها. إنها سرّ عظيم بالنسبة له لا يُؤتاه إلا «الوليّ الصالح». وهو يستعمله بكثرة في إيهام العالم ككلّ بأنّه على حق وأن مواقفه هي الجديرة بأن تُتّبع، وأن المجتمع لا يستطيع أن يفهمه وأن السلطة تفهمه جيدا وتخشاه لأنّها تملك وسائل فهمه، ولذلك فهي، في مقابل ذلك، تحاول أن تجعل منه شخصا يخشاها كذلك. ولعلّه من هنا، تبدأ عملية المد والجزر بمعناهما المختلف عما تدل عليه أمواج البحر، بين مراوحة الروائي خاصة بين إيديولوجية السلطة وسلطة الإيديولوجيا. حدث هذا مع العديد من المثقفين، ولكن مع الروائيين كذلك كما هو الحال بالنسبة لمحمد ديب وللطاهر وطار ولغيرهما كذلك. في الكِتاب عنوان فرعي يتناول «الرواية وإعادة كتابة التاريخ»، برأيك هل بإمكان الرواية كتابة التاريخ بعيدا عن تهويمات الفن والخيال. يعني هل يمكن كتابة رواية تاريخية متخففة من إرث الخيال والتخييل، وكيف تنجح الرواية في إعادة كتابة التاريخ؟ عبد القادر رابحي: ستكون في هذه الحالة خطابا تاريخيا لا أكثر ولا أقل. قد يقع العديد من الروائيين في هذا المطب فيكتبون عن حادثة تاريخية ما ويتناسون أنهم يكتبون جنسا أدبيا هو من أعقد الأجناس على الإطلاق نظرا لما يجب أن يضيفه الروائي للعمل من عناصر تخييلية وفنية وجمالية ترقى بالحادثة التاريخية إلى مستوى ما تمثله، في حالتها العادية، من قيمة ومن رمز. يحاول الروائي أن يعيد كتابة التاريخ، إذ لا يمكننا تصوّر رواية خارج التاريخ، لكن لا يمكنه أن يكتب رواية من منظور إيديولوجي مغلق. في هذه الحالة سيسقط الروائي في بؤس قراءته للتاريخ على الرغم مما يمكن أن يوفره لعمله من إمكانات لغوية وأسلوبية وجمالية. الرواية الجزائرية تعلمت كيف تؤدلج نصوصها بعد تجرية السبعينيات ترى أن النص الروائي لا يتأسس في حتمية منطقه السردي من منظور التصادم التراجيدي بين الواقع والتخييل فقط. هل يمكن القول أن الواقع المُوظف أو المُتاح في الرواية مُكمل للتخييل وأن التخييل المسكوب فيها مُجمِل للواقع؟ عبد القادر رابحي: هل يمكن للتخييل أن يجمّل الواقع؟ وهل يمكن للواقع أن يكمّل التخييل؟ سؤال قد يؤدي بنا إلى العودة إلى بعض عناصر الإجابات السابقة. والإجابة عنه ليست بهذه السهولة في اعتقادي. إن ما يحرك التخييل هو الواقع. ذلك أن الواقع نفسه هو رواية عظيمة لم تكتب بعد. والانتقال إلى كتابتها يكمن في عمق وعي الكاتب بلحظة التصادم بين الواقع والتخييل. وهذا التصادم هو الذي يولّد الأعمال الكبرى الخالدة. أيضا في الكِتاب أشرت إلى أنّ هناك خلافات دائمة بين التاريخ الحقيقي للثورة الجزائرية وبين التاريخ المتخيل الذي تصنعه الرواية. هل يمكن القول أنّ الرواية تمجد هذه الثورة انطلاقا من حمولاتها التخييلية بعيدا عن الوقائع والحقائق، وأن هذا ليس في صالح تاريخ الثورة مثلا ولا في صالح الرواية التاريخية؟ عبد القادر رابحي: ربما كان تاريخ الجزائر المعاصرة وتاريخ الثورة كما ظهرا في الرواية الجزائرية، المؤسسة منها أو اللاحقة، جزءا من الروايات المتعددة التي رواها المؤرخون عن الحادثة التاريخية نفسها. ولعل جيل ما بعد المؤسسين انتبه، بعد خروجه من مرحلة الانغلاق الإيديولوجي، إلى أهمية النظر إلى الحادثة التاريخية من زوايا غير التي تعود روائيوه أن يرسخوها في أعمالهم الأولى معتقدين، ربما، أنها سترسخ في التاريخ نفسه. إن إعادة قراءة تاريخ الأمير عبد القادر أو المرحلة البومديينية أو تاريخ ما قبل الثورة، أو ما سكتت عنه الرواية الرسمية للتاريخ من تيمات عديدة لدليل على أن الروائي كان ينظر بعين واحدة في مراحل سابقة، وعلى أن التاريخ يفرض تصوّره مع الوقت لأن لديه القدرة على الإقناع، عبر الزمن. إن رواية الحادثة التاريخية من وجهة نظر مغلقة لا يمكن أن يتحمله التاريخ. ونرى هذا الانزياح كذلك مع الجيل الجديد من الروائيين، حتى وإن اختلفنا حول دلالات كلمة جيل. في سياق الكِتاب جاءت جملتك هذه: «الروائي يظهر متقنّعا ببطله وهو يحاول تجاوز إشكالية القراءة المُتمنعة للتاريخ قراءة ذاتية». لماذا برأيك الروائي لا يمكنه التملص أو التخفف من قراءاته الذاتية حتى المتعلقة منها بالتاريخ؟ عبد القادر رابحي: الحقيقة أن هذه الفكرة تحاول أن تعيد طرح مستوى حرّية الكاتب حتى وهو يحاول أن ينسج التاريخ وفق رغبة نظام يسايره إيديولوجيا. وفي كثير من الأحيان كان الروائي يستعمل أبطاله لتمرير مواقفه مما يتفق حوله مع نظام ما، أو مرحلة ما، أو أزمة ما. نرى هذا جليّا في كثير من الأعمال الروائية حيث يستعمل الروائي أبطاله تقية وقناعا من أجل أن يعبر مرحلة تاريخية ما.