.. يقف"جيف كونس"من مكانه و قد أرخى ذراعيه نحو الأمام،بدت عليه الغبطة والرّضا عن الذّات،يجلس مقابلا له على كنابيه بيضاء من الجّلد، مغطاة بأغلفة زينة دائرية من القطن"دميان هرست"وقد حشر نفسه في مكان ضيق لا يليق به،يرغب بشدّة في الحديث،ابداء وجهة رأيه في الموضوع،وجهه ممتقع بالحمرة لسبب ما،من الممكن انه مريض أو يعاني من خطب ما،كلاهما يرتديان بذلة سوداء،بذلة كونس مخططة،قميص ابيض و ربطة عنق سوداء،بين الرّجلين،على مائدة واطئة وضعت سلة فواكه كما هي العادة في غرف المعيشة الفرنسيّة،يحتسي صديقه نبيذ" Budweiser Light"،خلفهما الواجهة الزّجاجية الكبيرة للشّرفة تطلّ على منظر مدهش لعمارات شاهقة أخذت ملمح شكل هندسيّ كبير شبيهة بحدائق بابل المعلقة،معانقة الأفق،الليل....، الهواء نقي،يوحي بالانشراح والرّاحة،يبدو للوهلة الأولى انهما في إحدى الدّول الخليجيّة،قطر أو دبي، الدّيكورات لا تخدع،وما يزيد من هذا الاحتمال هي الصّورة الاشهارية الكبيرة المعلقة على الجّدار والتي تظهر احد الفنادق الامارتية الفخمة والصّورة مأخوذة من مجلة ألمانية خاصة بالسّياحة،بالطبع لم يكن الحال كما هو،الدّيكورات والصّورة توحيان بهذا لكنها ليست الحقيقة،جبهة كونس تلمع، متعرّقة،يمسحها"جاد" ثمّ يعود للخلف،خطوة أولى، ثانية ثمّ ثالثة،من المؤكد ان"كونس"يعاني من مشكلة،مرض أو ماذا؟،"هيرست"الصّديق الأخر في الغرفة كان نقيضهما تماما،سهل التّعامل،التّحكم فيه أو على الأقل معرفة ما يجول بدواخله،كاستفزازه أو اغاضته فينفجر غاضبا،مزمجرا"تبا لكم ،س...بمالي من الأعلى إلى ..."،لكن هذا لا يعني انه قابل للتلاعب به أو ما شابه ذلك،لا،ما يخفيه أعظم،التمعن مع وجهه يجعلك تكتشف انه وجه ثقيل وبارد الملامح،وجه شبيه بوجه انكليزي،بالضبط،كمناصر متهوّر لفريق الارسنال،خلاصة يبدو وجهه كعلامة فارقة لمجموعة من التفاصيل المبهمة أهمّها بروفايل فنان انكليزي من علية القوم .. .. يدرك"جاد"ان خطب ما يعكّر مزاج كونس،بدا له انه ليس صديقه الذّي يعرفه،شخص آخر،نسخة زائفة منه، تناقض صارخ بين صدأ التكنيكو تجاري وهو بالطبع مصطلح أبدعته مخيلته النشطة وحالة من اللااستقرار الذهني،منذ ثلاثة أسابيع وهو يتأمّله،يراقبه ويصوّر ملامح و حركاته ، عندما يقف من مكانه،إرخاء يديه نحو الأمام بطريقة توحي بحالة من الهدوء والغرابة وكأنه يحاول إقناع هيرست،إقناعه بماذا؟،يشعره هذا بأنه يقوم بعمل جبّار، يشبّه نفسه كرسّام يجد سهولة في رسم احد أعضاء طائفة المرمون في وضعية حرجة على القيام بتحليل شخصية صديقه!!..يتذكّر صوره،صور كونس الكثيرة و المختلفة التي التقطت له هنا وهناك عبر أسفاره الكثيرة ولقاءاته بالشّخصيات العالميّة المهمّة،صورة مع" ابراموفتش "الملياردير الروسي،مارادونا،باراك اوباما،بونو مغني الرّوك الايرلندي وحتى الملياردير الأمريكي وران بوفيت،وكذلك بيل غايتس صاحب شركة ميكروسوفت ، لذا لا احد بمقدوره معرفة من يكون كونس،شخصيته مستعصيّة على الفهم،على تجاوز مظهره كبائع سيارات الشفروليه الأمريكية و التّي جعل منها واجهته الخاصة للتّعامل مع الآخرين،كان الأمر بالنسبة لجاد مرهق وموتّر للأعصاب،على العموم ومنذ مدّة طويلة والحال على هذا، يجتهد المصوّرون لمعرفة الوجه الحقيقي لكونس وجاد،خاصة المصوّرون الكبار أملا في اكتشاف حقيقة الشّخصيتين الغامضتين،لكن ليس بإمكان عدساتهم اختراق المستحيل،يكتفون بالوقوف أمامهما والضّغط على زرّ التّصوير بطريقة آليّة ولمرّات عديدة،متتاليّة ومتسارعة،مئات من اللقطات و من مختلف الجّهات،فيما بعد يختارون الأفضل وهذا بعد معاناة كبيرة في عملية التّحميض،هكذا يتعامل المصوّرون الذّين يدّعون الاحترافيّة مع الوضع,الحالة التّي يحاولون فيها تصوير مشاهير مثل جاد أو كونس،شخصيا جاد يعرف البعض منهم ولا يكنّ لهم الودّ والاحترام،يعتبرهم جميعا اقل إبداعا وابتكارا من آلة فوتوماتون " آلة تصوير تشتغل بطريقة آلية " .. ..سابقا،منذ سنوات،خطوات للخلف،يتذكّر،التفت للخلف لأنه سمع صوتا،ليس صوتا بل صريرا غريبا،مسخّن الماء يحدث صريرا مزعجا،هكذا"تاك ، تاك،تاك"،صفير جاف،غير مصدّق لما يراه أو يسمعه وإن لم اقل انه متفاجئ،كان التاريخ إن لم تخنه ذاكرته يوم 15 ديسمبر،قبل هذه الحادثة بسنة ،في نفس التّاريخ تقريبا،تكررت نفس الحادثة مع مسخّن الماء قبل أن يتوقف نهائيا،انخفضت درجة الحرارة في الورشة إلى 3 درجات،رغم هذا نجح في النّوم لفترة قصيرة،غلبه النّعاس و لا يعرف كيف حدث هذا،عند السّّاعة السّادسة صباحا،استعمل الماء الباقي في بالون مسخّن الماء من اجل استعمالات المرحاض ، ثمّ حضّر لنفسه فنجان قهوة في انتظار السّمكري،اخبروه عندما اتصل بهم بالهاتف البارحة بأنهم سيرسلون واحدا في السّاعات الأولى من الصّباح،تذكّر انه قبل الاتصال بهم كان قد بحث عن شركة ترصيص عن طريق النت،على احد المواقع قرأ إشهارا مثيرا و ان لم يكن مضحكا نوعا ما[ترصيص عام،معنا وبرفقة كفاءاتنا سندخل عالم السّمكرة إلى الألفية الجّديدة]،كان على الأقل احترام مواعيدهم،هكذا تمتم فيما بين نفسه،مرّ وقت طويل ولم يحضر الرّجل،وكعادته عندما يكون قلقا أو ينتظر أمر ما قام بدورة كاملة في الورشة ذهابا وإيابا مما سمح له بالشعور بالدّفء،ثمّ راودته فكرة قديمة،سيشتغل على لوحة من ألواحه الكثيرة وخاصة الأخيرة منها والتي رسم فيها أباه،كان قد سماها من وحي إبداعه" المهندس جان بيار مارتن يغادر إدارة مؤسسته"،مستسلما،أدرك أن انخفاض درجة الحرارة سيبطئ من عملية تجفيف الطبقة الأخيرة من الألوان،لا ينسى وهو يشتغل في صمت انه وعد أباه بان يتناول عنده كالعادة وفي كلّ سنة عشاء ليلة رأس السّنة،فقط،ما يقلقه هو السّمكري الذّي لم يأت بعد، تأخّره هذا سيسبّب له مشكلة هو في غنى عنها،سيفسد اللّوحة التّي اشتغل عليها لفترة طويلة،ثمّ يستسلم فيما بين نفسه أو ربما يقنع نفسه بأنه في كلّ الأحوال لا يمكنه إهداء هذه اللّوحة لأبيه،دون مبالغة رغب فقط في إظهارها له ليبدي رأيه فيها،يسال نفسه،لماذا كلّ الاهتمام بها؟،التعلق بها إلى هذه الدّرجة؟،لماذا؟،يكاد يفقد أعصابه،أجهد نفسه كثيرا،لما لا وهو الذي اشتغل على ستّ ألواح كاملة وفي فترة قصيرة،منذ أشهر وهو يعمل دون توقف،ثابر واجتهد،بالطبع،هذا ليس منطقيا،يقول لنفسه .. ..عند السّاعة الثالثة مساء قرّر الاتصال بهم،الهاتف لا يردّ ثمّ يسمع صوت امرأة تخبره بان هاتف المؤسّسة مشغول وعليه الاتصال بهم في وقت لاحق،يعيد الكرّة عند السّاعة الخامسة،ينجح هذه المرّة في التّحدث مع احدهم ، يخبره بأنهم يعانون من ضغط في الطلبات و انهم لا يجدون من يرسلونه خاصة و ان فصل الشّتاء على الأبواب،يعده بأنهم سيرسلون عامل التّصليح بعد غدّ،يطمئن جاد و يبدي ارتياحه،كان ارتياحا فاترا،يضع السّماعة،يتصّل بفندق" Mercureالواقع في جادة Auguste-Blanqui ليحجز غرفة،في اليوم التالي ينتظر العامل لكنه لم ياتي،زاد قلقه،احتدم نقاش داخلي ّعن هؤلاء الحرفيين الذّين يثرثرون و بمبالغة زائدة عن احترافيتهم التّي لا تشوبها أيّ شائبة،يعبّر عن استهجانه من ومضات الإشهار الكاذبة التّي تظهرهم و كأنّهم سادة التّرصيص في البلاد،يقول في نفسه ممتعضا.."لو كانوا فقط يعرفون قيمة المواعيد التّي يوزعونها بالمجان، يكذبون وهم يقولون للناس انهم يعرفون أسرار المهنة،الّترصيص في آخر صيحاته المتطوّرة،هراء كبير!.."..يقف أمام اللّوحة،كان قد رسم أباه واقفا فوق مصطبة بين مجموعة من الموظفين الذّين يشتغلون في مؤسّسته،يرفع نخبا وقد ارتسمت على محيا وجهه ابتسامة مقتضبة وان لم يقل مجروحة،هو عن دون غيره يعرف سببها،المدهش في هذه اللوحة هو انه استطاع رسم كلّ ما تحتفظ به رأسه من تفاصيل دقيقة عن المكان،النّاس وخاصة ملامح وجوههم المعبّرة وكأنها صورة فوتوغرافيّة لا جدال فيها،صالة كبيرة ذات جدران بيضاء،ثلاثون مترا على عشرين،مضاءة بسقف زجاجيّ،إضاءة باهرة في النّهار بحكم انعكاس ضوء الشّمس على الزّجاج وخفيفة مساء لكنها ليست مزعجة،أجهزة الكونسبيشون الموضوعة بعناية في أماكنها المحدّدة شاهد على نشاط خلية النّحل في مؤسسّة أب جاد،ليست أجهزة الكونسبشيون فقط،أيضا طاولات حيث وضعت فوقها الماكيتات بنسخها وأحجامها المختلفة وتظهر عليها مشاريع المؤسّسة،معظم فريق العمل من مهندسين في ريعان الشّباب ذو بنيات جسدية نحيلة،انهم مصممي " 3D " أو الأشكال ثلاثيّة الأبعاد،يظهر ثلاثة مهندسين واقفين بجانب والده،فكرك كثيرا كيف يرسمهم ثمّ تذكّر لوحة فنان تشكيلي ايطالي لورنزو لوطو،رسم الأشخاص الذّين لا ينظرون لبعضهم وهذا ما قام برسمه،الأشخاص الواقفين بجانب والده لا ينظرون لبعضهم،كل واحد يتجنّب النظر نحو الأخر،يلقون نظرات خاطفة و هذا ما ظهر جليا على الرّسم نحو الرّئيس,أباه،يقرا أفكارهم،انتهازية منهم،من يأخذ مكانه،الأب يحدّق في فريق عمله، أركان المؤسّسة و لسان حاله يقول انه يتمنى لمّ شملهم مرّة أخرى حوله،ثقة واقعيّة في المستقبل،لكنّها أيضا يقول جاد فيما بين نفسه انه حزن عميق لأنه سيترك المؤسّسة التي أسّسها،التّي قدّم سنوات عمره وقوّته من اجل أن يراها كبيرة،انه حزن لا مفرّ منه،كان رجلا يحتضر،يودّع الحياة في الرّمق الأخير،في منتصف النّهار،مرّة أخرى يحاول جاد الاتصال بهم، في الجّهة الأخرى يأتيه صدى موسيقى إذاعة " Skyrock"،يعبّر عن سخريته متمتما"لو اختاروا Rire & Chansons."،يلتحق بالفندق عند السّاعة الخامسة مساء،أسدل الليل ستاره على جادة Auguste-Blanqui، في مكان ليس بالبعيد مشرّدين بدون مأوي،اس.دي.ف يشعلون نارا صغيرة ليتدفئوا حولها .. ***** ملاحظة : الكاتب عبد الغني بومعزة ، روائي وكاتب مقالات في السينما و الفوتوغرافيا, صدر له رواية الاميرة والغول سنة 2009 عن منشورات اتحاد الكتاب