يقول المثل "أن تسمع عن الأصمعي خير من أن تراه"، لكن في أمر "الڤندوزية علي شريف"، الصبية ذات عشر سنين بقامة رضيعة في العامين من عمرها الأمر يختلف، فيصير المثل القائل "ليس من رأى كمن سمع" أصدق تعبير عن موقف مواجهة أعجوبة من أعاجيب الخالق عز وجل، لا يجد معها المرء إلا أن يجهر بها.... "سبحان الله"!! كانت الساعة الخامسة مساء لما شعرت أنه لا بد وأن أنطلق نحو "المزيرعة" ببلدية مادنة، دائرة عين كرمس بولاية تيارت حيث تعيش الفتاة التي أصر على الكتابة عنها رئيس التحرير، كان قد أنهكني تعب النهار الذي لم أعد فيه إلى البيت، ورغم ذلك قررت أن يكون استطلاعي جاهزا في اليوم التالي مهما كلف الأمر... ولم أجد بعد أن خلت محطة الطاكسي إلا أن استنجد ب "واضح" الكلونديستان صاحب سيارة المرسيدس الخضراء التي ما زالت بصلابة الألمان رغم أنها من إنتاج عام 1982.. طلبته بالهاتف فكان حاضرا وانطلقنا.. الطريق إلى مادنة، 120 كلم غرب تيارت، انطلاقا من تيارت يمر بملاكو ثم مدغوسة، على الطريق الوطني رقم 14 وبعدها ينحرف عبر الطريق الولائي رقم 09، حيث الحفر الكثيرة والأشغال المتوقفة منذ أشهر.. قبل أن تظهر بعض الكيلومترات المعبدة بعيدا عن دوار "العثامنة" الذي أخبرنا باسمه أحد الأهالي الذي حملناه معنا بعد أن أشار بيده طالبا نقلا مجانيا.. فعلى طول الطريق لا توجد لافتات لإعلام من على الطريق بالأماكن، حتى تلك المجموعات السكانية الكبيرة لا توجد لها "بلاكة"، بما في ذلك الإشارة للمنعرجات الخطيرة التي قال لي "واضح" الكلونديستان إنه لم ير مثلها في البلاد، منعرج ب 90 درجة، ثم منحدر يشبه الهاوية..!! أخبرني بحوادث مرور حدثت هناك وعلى الجزء المعبد حديثا من الطريق بالضبط! وصلنا عين كرمس في البداية، لنلتقي بدليلنا، رئيس فرقة الباتريوت المعروف عبد القادر حمو، لقيناه في أحد المقاهي... عزمنا على مشروبات ثم انطلقنا معا نحو "المزيرعة".. "المزيرعة".. قرية بلا عنوان على بعد كيلومترات من عين كرمس... ظهرت "المزيرعة"، هي الأخرى بلا لافتة للإشارة إلى وجودها، كأن رؤساء البلديات في المنطقة متفقون على أن يبقوا أسماء المناطق في بلدياتهم سرا من أسرار البلدية، لا يعرفه إلا أهلها، بل إن بعض البلديات كما ذكرني مرافقي لا تهتم حتى بلافتة المدخل والمخرج فلا تغيرها رغم تعدد عهدات المجالس المنتخبة، كما أن بعضها تحرف دون أن يصحح أحد أخطاء كتابتها!!! "المزيرعة" دوار أو تجمع سكاني متواضع.. الغبار يأكله من كل جانب، صادفنا خندقا كبيرا يبدو أنه لأشغال توصيل قنوات الصرف الصحي، فرض علينا الدوران 180 درجة للوصول إلى بيت أهل الڤندوزية... قبلها وعند مدخل القرية وجدنا السيد بن علي علي شريف.. رجل كهل، يبدو في أواخر الأربعينات، يرتدي ألبسة بسيطة على جسم تبدو عليه القوة، وجه تكسوه مسحات من السمرة الداكنة التي يبدو أن حرارة الصيف صنعتها بإتقان.. بدا كأنه يستعد للمغادرة إلى مكان ما، قبل أن يناديه صديقه "حمو" ويدعوه إلى الركوب في سيارتنا، عرفّه بي وبالسائق، وطلب منه التوجه إلى بيته، لأن الصحفي جاء للتعرف على ابنته "الڤندوزية"، مذكرا إياه بالموعد الذي حدده اليوم السابق وألغي، فقد كنت قد طلبت من "الدليل" ترتيب اللقاء.. السيد بن علي أظهر في البداية تبرما من الصحافة، ملمحا إلى عدم جدواها له، فقد مر عليه الكثيرون ثم لم يحدث شيء، في إشارة إلى التلفزيون وخلية الإعلام بالولاية، فهمت فيما بعد أنه كان يريد تكفلا بالفتاة أو التفاتة إليه، فهو يعمل في الشبكة الاجتماعية، وإخوته يملؤون عليه مسكنه... في ضيافة آل علي شريف دخلنا بيت آل علي شريف، وما إن جلسنا حتى دخل علينا 4 رجال... كانت الوجوه متشابهة، عرفت أنهم كلهم إخوة، ورغم ذاك سألت.. كانوا كلهم متزوجين إلا واحدا، كلهم بلا عمل، والضوضاء في الرواق وفناء البيت تؤكد أن أبناءهم كانوا هناك... الغرفة التي دخلناها، ويبدو أنها هي دار الضيافة، كانت صغيرة ومتواضعة، بلون وردي، صوان ملابس وعليه مخدات وصورتان معلقتان على الجدار وتلفزيون صغير بالأسود والأبيض وتحته في نفس الطاولة جهاز قارئ أقراص "في.سي.دي"، فيما انسدل على النافذة الوحيدة ستار أحمر.. كانت أرضية الغرفة مبلطة ببلاط قديم، من أرخص الأنواع في السوق، ينتهي عند الرواق المحفر، الذي يقود إلى الفناء وباقي الغرف، كانت تبدو أنها الغرفة الوحيدة التي فيها "الكرلاج"، متناغما مع ألوان ألبسة أعمام "الڤندوزية" الرثة التي تعطي الدليل القاطع على وضع اجتماعي صعب وفقر مدقع.. كما تقتضي أصول الضيافة شربنا القهوة ومعها "مادلين"، وبينما كنت أتحرق لرؤية الفتاة الأعجوبة، فتح "حمو" كتاب ذكرياته مع الإرهابيين في المنطقة، وبالتحديد عن الحادثة التي تعرض فيها أب "الڤندوزية" وأخوه إلى طلقة نارية بالخطأ، انتهت ببتر أربع أصابع من قدمه اليمنى، حيث كان هذا الأخير يعمل في مزرعة ويقطن في أحد بيوتها تحت حراسة مجموعة من رجال المقاومة، الذين تصدوا لعدة هجمات في المنطقة وقتلوا عددا من الإرهابيين بقيادة "حمو" نفسه، الذي تأسف لحال بن علي لكونه لم يعوض، رغم الشكاوى طيلة السنين الماضية، أي منذ تاريخ إصابته سنة 1995... "الڤندوزية" إبداع الخالق بعد انتظار ثقيل مني، تحرك بن علي لإحضار ابنته.. صورة لم تخطر لي على بال... حفنة من اللحم، بطول 43 سنتمتر، مكسوة بلباس، يعلوها شعر أملس وجلد رخو، ووجه ملائكي فوق ذراعين نحيفتين، والكل على ساقين في سمك العصا وقدمين يناسبهما حذاء مقاس 23، لا أكثر، ظهر عليهما التواء جعل صاحبتهما تكتفي بالزحف للتنقل... لقد جاءت "الڤندوزية" أخيرا.. حيتنا بابتسامة سعيدة ولطف كبير وبصوت مبحوح، ذكرني بالأصوات المعدلة بالكمبيوتر، كانت الصغيرة نشيطة وسريعة الرد على الأسئلة، وكثيرة الدعاء بالخير للجميع، "الله يحفظك"، والابتسامة لا تفارق شفتيها، لتسألنا "شفتوني في التلفزيون؟"... سألتها عن عمرها قالت تسع سنين.. ليصحح لها والدها بالقول إن عمرها عشر سنوات، مبرزا الدفتر العائلي حيث كتب 21 جوان 1997... لما سألتها عن أصدقائها قالت لي "صبرينة وفتيحة والوالي!! ولما استفسرت عن الأسماء قيل لي إن الأولى من التلفزيون والثانية من خلية الإعلام بولاية تيارت، ووالي تيارت الذي طلب رؤية الفتاة واستدعى والدها إلى مكتبه منذ أيام... بعد أن حملتها بين يدي أخبرتني بأسماء بنات أعمامها جميعا، تشير إلى كل واحدة وتذكر الاسم قبل أن تطلب منهن تقبيلها مع تهنئتهم بعبارة "بصحتكم" على الصورة التي أخذتها لهم معها!!! ولو أنها وجدت صعوبة في مواجهة آلة التصوير في فناء المنزل لأنها لم تطق أشعة الشمس فكانت تغمض عينيها باستمرار وتصر على عدم فتحهما!!! "الڤندوزية" ورغم الضوضاء وعدد الأطفال الذين اعتقدنا أنهم إخوتها، كانت وحيدة والديها، كل إخوتها الثمانية ماتوا قبل أن تولد هي، لقوا حتفهم أجنة في بطن أمهم، إلا واحدا عاش شهرين ثم توفي. "الڤندوزية" اسم اختاره والداها تيمنا بزاوية "بلڤندوز" المجاورة، وأملا في أن تعيش ببركة شيخ الزاوية... كان الحمل بها طبيعيا، ولم تحدث أي مشاكل غير عادية، اللهم إلا عند ميلادها في عيادة الولادة بكرمس، فقد أثار حجمها الصغير القلق، وتم إجلاؤها إلى مستشفى تيارت، حيث وضعت في الحاضنة لمدة 15 يوما قبل أن ينصح أهلها بوضعها في القطن طيلة شهر واحد، وبعدها عاشت عادية، وما زالت.. حسب والدها، ف "الڤندوزية" سليمة الصحة وتأكل بشكل طبيعي، تأكل كل ما يأكل من في سنها، وتشرب القهوة بالحليب وسوداء أيضا!!! مراقبة لنفسها جيدا، فحين تريد قضاء حاجتها تطلب المساعدة دون أن توسخ نفسها... ويبقى أنها محرومة من الخروج إلى الشارع، تجنبا لفضول الناس وحفاظا على سلامتها، فهي لا تستطيع المشي فتزحف للتنقل.. عن الأمراض التي تصاب بها قال عمها إنها أمراض عادية مثل كل الناس، ففي الشتاء تصاب بالبرد وبأخذها إلى الطبيب ثم تناول الدواء تشفى... ليثني والدها على الأطباء لأنهم لا يأخذون مقابلا على فحصها. "الڤندوزية" لم تدخل المدرسة ولا يبدو أن ذلك ممكنا لها، فرغم تمتعها بذكاء حاد وذاكرة قوية وقدرة على الكلام، فمن المستبعد أن توفق في الدراسة العادية، كما قال عمها، فطول قامتها وبنيتها الضعيفة وعدم قدرتها على الحركة يتطلبان إجراءات خاصة لتدريسها وهو ما يبدو بعيد المنال في الوضع الحالي لأسرتها ولطبيعة النظام المدرسي الوطني ككل. رأي الأطباء: حالة فريدة إلى إشعار آخر! حسب الملف الطبي ل "الڤندوزية" فإن حالتها نادرة، وربما فريدة من نوعها، وهي محل تحقيق طبي في ما إذا كان لها مشابهون في العالم، حيث أن الأطباء المحليين يؤكدون أنهم لم يروا قصر قامة بالحد الذي يوجد عند "الڤندوزية"، وحسب والدها، فإن د. محمد شيخي، طبيب الأطفال المعروف في تيارت، سلم ملفا طبيا كاملا عن الحالة إلى أستاذ مختص بإحدى الجامعات الفرنسية على أمل البحث في سر "الڤندوزية" والتأكد ما إذا كانت حالتها فريدة، وهو في انتظار الرد، فيما يفكر البعض في تسجيلها في كتاب غينس للأرقام القياسية، وقد أكد أحد المهتمين أنه عثر على موقع "غينس" على الانترنت وفهم إجراءات الاتصال بالقائمين عليه، وعرف أن دخول الكتاب لا يتطلب مالا، واعدا بأنه سيتكفل بالعملية.. روبورتاج وتصوير: سليمان بودالية