نحو تأسيس جديد طارق مريسي يبدو حال القصة القصيرة في الجزائر سيئا و مترديا للغاية. و ذلك لغياب أي ملامح واضحة بإمكانها أن تخط لوحة بيانية توضح مساراتها الكمية و النوعية. و ما زادها تقهقرا هو انحسار جاذبيتها و الاهتمام العالمي بها بعد رحيل أقطابها منذ المنتصف الثاني من القرن العشرين. و لقد كشف ملتقى القاهرة الدولي للقصة القصيرة الذي جرت فعالياته نهاية العام الماضي 2009 عن حالة من الاهتراء يعيشها المشهد الأدبي العربي. بالنظر إلى ما يعانيه فن القصة من إهمال من طرف المبدعين، و إبعاد مقصود من طرف الناشر العربي. من خلال الكتاب الذي أصدره الملتقى بالمناسبة. و الذي يضم مجموعة من المقالات كتبها مختصون من البلاد العربية. نلمس اهتمام البعض بهذا الجنس الإبداعي. و كذلك إحاطة و معرفة بالإشكالات التي تعتور مساره منذ ثلاثة عقود أو أكثر. في هذا الكتاب يقول جورج جحا عن القصة في لبنان أن جزء من المشكل يقع على عاتق الناشر العربي "لأن ما يصله منها قليل عدداً وغير جيد نوعا. ًوأعلن رياض الريس أنه لا ينشر الآن قصصاً قصيرة إلا للكاتب السوري الشهير زكريا تامر الذي للدار حق حصري في نشر أعماله. وفي اعتقاده أن من أسباب الإقبال على كتابة الرواية أن هناك عامل الإغراء بترجمة الروايات إلي لغات أجنبية بينما ليس هناك من يهتم بترجمة القصص القصيرة.ويقول ماهر كيالي إن الدار لا ترفض نشر القصص القصيرة لكنها تميل إلي تفضيل نشر الروايات. بينما حسن فوعاني يضيف إلى الأسباب سبباً فنياً يعبر عنه بالقول إن كتابة القصة القصيرة شأن صعب وكتابها الناجحون نادرون الآن." كتبت أيضا شهلا العجيلي من سوريا في السياق ذاته عن القصة في سوريا مؤكدة "أنها نوع أدبي في مأزق ثقافي. وتؤكد أن غياب القصة القصيرة، يشير بعد حضورها في ثقافة بنية اجتماعية معينة، إلي فقدان قدرة المبدع علي التقاط اللحظة الناتئة عن سيرورة التاريخ، والحالة الاستثنائية السريعة أو العابرة، والمفارقة المقنعة بقناع العادي واليومي، وفي ذلك خمول للقدرة الإبداعية عند الشعوب. أما على مستوى الفنية، فإن آلية عرض القصة القصيرة وتقنيات كتابتها مغامرة متقدمة، فالقصة القصيرة ظهرها مكشوف، لا تحتمل ترهلاً قد يخفيه امتداد السرد في الرواية، قد يكون هذا أحد أسباب تراجع الإقبال على كتابتها." يتقاطع مع هؤلاء الكاتب و الباحث الجزائري محمد رابحي الذي يرد تدهور المشهد القصصي في الجزائر إلى "عجزه عن تشييد بنيته المتكاملة وترسيخ قيمه وآلياته.. لم يتمكن من إطلاق أسماء مرجعية تستند إليها الأجيال اللاحقة من كتاب القصة، ولهذا لم تترسخ بالوعي الإبداعي الجزائري فكرة اختيار الجنس الأدبي كعنصر تخصيب تستدعيه العملية الإبداعية نفسها، ما يسهم في إغناء مفهومنا لفن القصة ويسهم تالياً في تطويرها أو انطلاقها وتحررها بتعبير أدق."بيد أن الأمر يبدو في أفقه بعض النور و الأمل إذ يقول الدكتور لطيف زيتوني في احدى فقرات الكتاب "إن القصة القصيرة مرت في الغرب نفسه في حال انحسار. و بما أننا في هذه المنطقة من العالم نتأثر بالغرب »استيراداً« ومحاكاة في مجالات شتى، منها الفكري والأدبي، فقد انعكس ذلك علينا في حقل القصة القصيرة.". و أشار زيتوني إلي ما سماه تباشير بداية عودة للقصة القصيرة في أمريكا الشمالية وبعض أوروبا، وهذا يجعله لا يستغرب عودة الروح إلى القصة القصيرة عندنا. و بالعودة إلى الساحة الأدبية العالمية . نجد فعلا أن القصة تعود بقوة. إذ ها هي بوليتزر عام 2009 تعود إلى اليزابث ستروت عن مجموعتها القصصية "أوليف كيتيريدج". و حصدت أليس مونرو الكندية جائزة "وومان بوكر العالمية للقصة"،، و تحصلت بتينا عابا من زيمبابوي على جائزة صحيفة الارديان عن مجموعتها مرثية لاسترلي و تنافس على جائزة البي بي سي للقصة القصيرة هذا العام خمس كاتبات لتظفر بها أخيرا كيت كلانشي. و نحن نعدد حضور الفن القصصي على المستوى العالمي، من خلال الجوائز. نجد أن العمل الروائي نفسه أصبح يرتبك في ماهيته و يأخذ أشكالا قريبة من فن القصة: فلقد كتب الروائي عاموس عوز "مشاهد من حياة قروية" عبارة عن لوحات قصصية منفصلة متصلة. و كتب أحد النقاد الفرنسيين عن رواية "ثلاث نساء قويات" لماري ندايي الحائزة على غنكور 2009 قائلا بأنها ليست رواية و إنما هي مجموعة من القصص.و إذا ما دققنا النظر في مشهدنا الأدبي نجد أن الجزائر تستعيد نشاطها القصصي عبر عودة كتاب كبار تركوها بعد أن كانت فاتحة مشوارهم. إذ عاد قبل فترة شيخ الرواية الجزائرية الطاهر وطار إلى كتابة القصة، نشرها تباعا بالصحف المحلية، و جمعها بعد ذلك في كتاب صدر مؤخرا. و أعلن الروائي مرزاق بقطاش في حوار أخير أنه بصدد إصدار مجموعة قصصية، كتب نصوصها خلال السنوات الأخيرة. الأمر نفسه ينطبق على الروائي جيلالي خلاص..غير أن أهم من مجموعات قصصية تصدر في مشهد أدبي يلتزم الصمت، ثمة محطة حاسمة تشهدها الساحة حاليا هي الحركة التي تقودها مجموعة من الكتاب الواعين بأبعاد المسألة و ضرورة تجذير هذا الفن السردي. و هي الحركة التي أسمت نفسها "جبهة كتاب القصة". منهم علاوة كوسة و محمد رابحي و فيصل الأحمر و قلولي بن ساعد و الخير شوار و عبد القادر حميدة و جميلة طلباوي و عيسى بن محمود و عبد الباسط بوعنان و عبد الحميد عمران و آخرين فاعلين في المشهد الأدبي الجزائري. مرتكزين على مقالة محمد رابحي "الدعوة إلى جبهة كتاب القصة في الجزائر" التي اعتمدت كبيان يؤسس لعمل الحركة. و في مقام حجرها الأساس الذي تقوم عليه. و يتلخص جوهره في تطوير المشهد القصصي من خلال تطوير القصة عبر التأريخ لمسارها و روادها و التوثيق لكتابها الجدد. و الظاهر أن المبادرة على قدر من الجدية و الإصرار. إذ أخذت طريقها من البيانات إلى أرض الواقع. فاستطاعت مؤخرا هذه الجماعة أن تعقد ندوتها الأولى بمدينة سطيف. تحت شعار "القصة القصيرة من التأسيس إلى التجنيس"ما ساعد أكثر على الخروج برؤية واضحة. أساسها تكوين فرق عمل للبحث و التنقيب. إضافة إلى ترسيخ حضورها في المشهد و مطارحة الجديد حول هذا الفن. ما يخلق له مستقبلا نقطة ارتكاز تساعد في تنوير الجيل القادم من القصاصين الجزائريين.و يحدث هذا على خلفية انتعاش حركة النشر بدعم من وزارة الثقافة، ما يمكنه أن يلبي حاجات هؤلاء و غيرهم من كتاب الجزائر، إلى تحقيق رؤاهم الأدبية. من أجل ترقية المشهد الأدبي الجزائري الذي يعاني منذ عقود من إفلاس كتاب الصف الأول و يأس أو شلل كتاب الجيل الجديد أو ما عرف بجيل أكتوبر 88.