إيمان كاسي موسى - باحثة في علم الاجتماع الديني واللسانيات إنّ ملاحظة سلوك العوام إزاء تطبيق أو العزوف عن تطبيق التّدابير الوقائيّة من وباء معدي، ومنطق تعليلهم لذلك، يحثّنا على محاولة فهم مشارب ثقافة البعض ممّن يسلّمون مباشرة بفهمهم لثنائيّة «القضاء والقدر» إن أصابتهم مصيبة فوق مظاهر التسيّب الّتي ميّزت صور حياتهم اليومية، فنجد منهم حتّى من يربط بين ذلك الاستهتار وقوّة الإيمان ! ولابدّ أنّ أيّا منّا قد صادف - لدى نصحه أو تعاطيه مع أحدهم خلال حياته اليوميّة- عبارات مثل «ياخي المومن مصاب»، «لي كاتبة تلحق»، «مانهربوش من مكتوب ربّي»، هذا ممّا يصدر على لسانهم بشكل مباشر. أمّا عمّن يضمرون الأسباب أو يبدون غيرها، فسرعان ما نلمس عند معظمهم تسليما بالواقع دون دفع لضرر ولا سعي لتغييره بما هو في متناولهم ولو بأبسط حركة. ناهيك عن تحوّل هذا النّموذج إلى سبيل نمطيّ وروتينيّ للتخلّص من مساءلة الذّات وعذابات الضّمير، قد تمتدّ لدرجة النّكوص وتكثيف صور اللّامبالاة من باب «عدم ردّ القضاء» لتصبح إيمانا راسخا بالواقع الّذي لا يمكن أن يتغيّر حسبهم ولو توفّر عنصرا الإرادة والحريّة. أوليس «الهروب» من مشيئة الله يكون إلى مشيئة الله لا غيرها ؟!ما الطّارئ في أمرهم؟ ولماذا لا يتم تبنّي السّلوك الرّاجح في وضعيّات مشابهة؟ نضطرّ أن نستوعب من قول وفعل هذه الفئة فكرة أنّ الإنسان رهينة مفهومه ل»المكاتيب» وليس أفعاله؛ فالأمر يحيل إلى اعتقاد راسخ طبع تمثّلات البشر ليصبح عادة حياتيّة ترمي على الله هوانهم؛ إذ أنّ هذا التّقهقر والتّقاعس الرّاسخ في حياة المسلم واضح في مختلف مجالات حياته علميا وثقافيا. علاوة على ذلك، انتقل مع الوقت التحجّج العمودي المذكور إلى تحجج أفقي واختراع الحواجز بالإحجام عن السّعي في الحياة ولوم أي شيء فانتشار الطاقة السلبية، وبالتّالي أصبح الانتقاد المتواصل سيّد الموقف عوض الإقدام على إحداث التّغيير تنصّلا من المسؤولية وتنازلا عن عنصر الإرادة، فما ينفكّون ينحدرون إلى منزلة أدنى من تلك الّتي حباهم الله بها، ولو أنّ «احترام الذّات أكبر محرّك للنّفوس العزيزة» مثلما بدر عن قول الفيلسوف السويسري جان جاك روسو. يا ترى، من منّا لم تراوده تساؤلات معيّنة تفرج عن بعض تمظهرات وتجلّيات المشكل على أرض الواقع؟ فممّا لا يجدر إغفاله ما يتعلّق بكثرة مظاهر التسيّب الاجتماعي وعدم احترام القوانين الردعيّة أو التّحايل إزاءها رغم إدراك حجم الخطر المحدق. وبمساءلة النّفس مرارا عن تلك الاستهانة بالمصلحة الشخصية ومصلحة العامّة ولو بأقرب المقرّبين، كيف عسانا نهضم نقص الشّعور بالمسؤولية لدرجة التسبّب في موت أبرياء؟ هنا، نكون قد وازنّا بين صفة التّسليم بالواقع الّذي يعدّ «ابتلاء»؛ حالة شبه عامّة لا مناصّ منها، وبين ما طفا إلى السّطح من ثقافة الصّمت حيال المرض وحيازته ممّا يعكس إشكاليّة وعي في التعاطي مع الأمور. من ناحية مغايرة، لا يخفى عنّا في هذا المقام أنّ عموم الشّعوب المسلمة، من خلال تعابيرها الصّريحة في الواقع والافتراض، لم تخف امتعاضها من واقعها الّذي امتثلت فيه كفئة تنتظر بفارغ الصّبر ظهور لقاح للوباء، وفي الجهة المقابلة عالم متقدّم يركض على قدم وساق لتحقيق ذلك المسعى فعليّا لإنقاذ البشريّة وتغيير ما تراه تلك الفئة «قضاء وقدرا» لا مناصّ منه. ولربّما انتهاجها سبيل التّعابير السّاخرة في وصف هذا الواقع المأزوم يعكس مدى إدراكها لعمق المشكل الّذي تصرّح به قولا وتضمره فعلا. إذن، أمام فشل كافّة مساعي الإعلام والقانون والدّين وحتّى الأطبّاء في التّحسيس والرّدع والتّوجيه، وجب التّساؤل عمّا هو ثابت وراسخ في أذهان قسم معتبر من العوام وحال دون شعورهم بحجم الخطر ونتائجه. فبطبيعة الحال، لا يكفي القول إنّ ذلك يعكس قلّة وعي جمعيّ أو نقص تمدّن وتحضّر فقط دون السّعي لإدراك عمق المشكل وتفكيكه، ولن يتوقّف الأمر عند تشبيهه بفكر الخلاص وما يصاحبه من «تضحية» في سبيل حياة خالدة مقارنة بهذه الفانية، كما أنّه ليس من المعقول عدّها أسبابا بسيكولوجيّة بحته ظاهرها الملل من السّعي في الحياة بالمجمل، لا سيّما أنّ مظاهر التّقاعس تلك حالة شبه عامّة وظاهرة دائمة لم تبرز فقط في عهد الوباء، بل يمكن اعتبارها إيديولوجية حياة. كذلك، استنادا إلى اللّغة الّتي تعاطى بها العوام في عمليّات سبر الآراء الّتي قامت بها مختلف وسائل الإعلام حول طبيعة التّعامل مع الوباء، اندرج المتّفق عليه غالبا ضمن الاعتقاد بأنّ ما سيصيب الإنسان حادث لا محالة، وكأنّهم كيفما فعلوا أم لم يفعلوا فهو «قضاء وقدر» بمفهومهم ولا مناصّ منه. من هذا المنطلق، أضحى من الواجب الإسهام في معالجة ترسّبات هذه القضيّة الجوهريّة في تصوّر المسلمين والّتي اكتسحت قسطا كبيرا من اهتماماتهم الفكريّة عبر التّاريخ مع مطابقة تداعيات هذا الفكر بواقعنا الحاليّ. نتوصّل عقب تلك المقدّمات إلى القول: هل السّلوكات المذكورة هي نتاج ترسّبات فقهيّة معيّنة طبعت تأثيرها عميقا في شخصيّة العوام وبالتّالي عاداتهم؟ وما اللّافت في المنظومة الفقهيّة بخصوص قضيّة القضاء والقدر الّتي ترجع إليها دوما تلك الإجابات الجاهزة المذكورة آنفا؟ اختلفت المذاهب الفلسفيّة والفرق الكلاميّة والدّينية في نظرتها إلى إشكاليّة القضاء والقدر، فمنها من غالى في نفي صفة الاختيار عن الإنسان كمذهب الجبريّة الجهميّة (ممّا ينفي صفة التّكليف عن هذا المخلوق الّذي خصّه الخالق بالعقل). ومنها من عدّها - أي صفة الاختيار- مطلقة عند الإنسان وأنّه هو الخالق لأفعاله كمذهب المعتزلة المتّصف بنزعته العقلانيّة. أمّا مذهب الأشاعرة، فقد رام التّوفيق بين الجبريّة والقدريّة على نحو معيّن. من جانب الفقه الإسلامي، نجد من فرّق بين «القضاء» و»القدر» مثلما نجد من دمج بينهما أو لم يسترع دقّة التّعريف من ناحية الجانب المفاهيمي لكلّ لفظ، إنّما كلّها اجتهادات وازنة. يقول «ابن تيمية»: «»مذهب أهل السنّة والجماعة في هذا الباب ما دلّ عليه الكتاب والسنّة، وكان عليه السّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، والّذين اتّبعوهم بإحسان، وهو أنّ الله خالق كلّ شيء ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد.» وعن «مالك الأصغر» أبي زيد القيرواني، نلمس الإحاطة في تعريف يستلزم فيه «الإيمان بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومره، وكلّ ذلك قد قدّره الله ربّنا، ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علّم كل شيء قبل كونه، فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولّا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به». واستدلّ في ذلك بالآية الكريمة: «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (سورة الملك 14)، ذاتها الّتي فسّرها «القرطبي» بمعرفة أسرار من خلق، ومثله فعل «الطّبري» باعتبار الله جلّ جلاله خبيرا بخلقه وبأعمالهم. ومن جهته، ترك «محمد بن يوسف اطفيّش» تعريفا فيه بعض التّفصيل في قوله: «يجب الإيمان بالقدر وهو إيجاد الأجسام والإعراض، وبالقضاء وهو الحكم بها في الأزل، فهو صفة ذات، أو إثباتها في اللّوح فهو صفة فعل». حديثا عن الصّوفية، فقد اشتهرت بصفة التوكّل فيما يخصّ القضاء والقدر، لكن لم يخل الأمر من الاستثناءات؛ بحيث تميّز جلال الدّين الرّومي عنهم وعن علماء الكلام بشكل عامّ؛ فقد اعتبر الرّومي منهج الصّوفية سبيلا للخلاص ممّا نخاله متناقضات في الوجود، معتبرا أنّ الحبّ الإلهيّ وحده من شأنه إثبات أنّ الإنسان حرّ ومسؤول؛ إذ لا جبر في الحب. كما أنّ الشرّ بالنّسبة له من لوازم الوجود لا من خصائص الخالق، وهو لازم للطبيعة الّتي تحتاج الضدّ دوما في الوجود. أمّا من جانب الفلاسفة والعلماء المسلمين القدامى، لا يفوتنا نموذج «ابن رشد» الّذي سرد أدلّة من الجهتين - الجبر والحريّة - منتصرا بعض الشّيء للعقل في النّظر بينهما. ورسوّا عند زماننا، فمن ضمن أهمّ الباحثين المعاصرين الّذين تناولوا إشكاليّة طبيعة العلاقة بين نظرة المسلم للقضاء والقدر ومفاد هذه المفاهيم في القرآن الكريم، يحضرنا بقوّة اسم المفكّر الدّكتور محمّد شحرور رحمه الله الّذي تفرّد بتفسير منطقيّ يحترم متطلّبات الفهم بالرّجوع للقرآن الكريم والمفاهيم الّتي استقاها من خلال الحجاج القرآني. يميّز الدّكتور شحرور بين القضاء والقدر والمشيئة وحريّة الاختيار تبعا لاجتهاده القرآني، وبالتّركيز على مفهومي «القضاء» و»القدر»، يقول إنّ القدر هو «الوجود وقوانين الوجود» باعتبار أنّ الله تعالى قدّر أمورا كالجاذبيّة الأرضيّة والصحّة والمرض، وهو ما عدّه شحرور الوجود الموضوعي للأشياء؛ الأمر الّذي استنبطه من قوله تعالى « نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ 0لْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» (الواقعة 60)، ومنه أشار إلى أنّ الموت قدر وليس قضاء وقدرا. هنا تجدر الإشارة إلى أنّ المفكّر الرّاحل محمّد شحرور هو من أوائل الّذين شدّدوا على انتفاء صفة التّرادف في القرآن الكريم؛ ليس فقط لأنّ هذا مثبت لسانيّا ولكن لأنّ كلام الله عزّ وجلّ يحيل إلى ذلك. انتقالا إلى القضاء، فحسب تأويل شحرور للآيات القرآنية ينحصر مفهومه في «الاختيار بين النّفي والإثبات في الوجود» أي في الاحتمالات الّتي يمدّه بها القدر، ولذلك يعدّ الموت قدرا والقتل قضاء والله تعالى قدّر الموت ولكنّه حرّم القتل. وعن الآية الكريمة «ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجّلا» (آل عمران 145)، يقول شحرور بأنّ هناك كتاب هو كتاب الموت ويتمثّل في مختلف الشّروط الّتي تؤدّي إلى الموت اذا اجتمعت، أمّا عن مفاد لفظ «مؤجّل»، فهو لزوم تحقّق الشّروط اللّازمة لحدوث الموت من ضمنها الأسباب الصحيّة، وبالتّالي، فالعقل الإنساني قادر على تأجيله ضمن القدر لغاية استيفاء شروط حدوث الموت. ولتبسيط قوله أمدّنا بأمثلة قائلا: "الطب يدرس علوم القدر ويدرس أسباب الموت والظّواهر الّتي إذا حصلت في الإنسان تؤدّي إلى الموت"؛ وبالتّالي فالعلاقة بين القضاء والقدر هي "المعرفة"، وحريّة الإنسان هي القضاء والقدر معا. يضيف شحرور في ذات الصّدد: " لمّا يعرف الإنسان جهاز الدّوران جيّدا يستطيع أن يقرّر ما يفعل كإجراء عمليّة جراحيّة من عدمه". ومنه يجد أنّه كلّما زادت معرفة الإنسان بالمقدّرات كلّما زاد قضاؤه فيها وبالتّالي زادت "حريته. يتبع ذلك بذهابه إلى أنّ الله من احترامه للحريّة الإنسانيّة جعل مشيئة الإنسان من مشيئتة، ما يتّضح في قوله تعالى: " إن هو إلّا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلّا أن يشاء الله ربّ العالمين " (التّكوير 27-29). وهذا ما معناه أنّ خيارات الإنسان موجودة ضمن مشيئة الله، مع التّنويه إلى أنّ الحريّة هي إمكانيّة القيام بالشّيء مع معرفته. هنا يردف شحرور، بطبيعة الحال، قوله إنّ هناك مشيئة تقتضي الثّواب ومشيئة تقتضي العقاب، ولمّا حدث تراجع واختفاء لمفهوم المشيئة والحريّة صارت الثّقافة بمظهر القطيع الذي لا خيارات له رغم أنّ الله تعالى أمدّنا بكل الخيارات مانحا إيّانا حريّة الاختيار. إذن، نفهم أنّ "المكتوب" هو ما يقبع في قوانين الحياة وليس في سلوكات الأشخاص، ولولا توفّر حريّة الاختيار لما تواجد حساب وعقاب. فشحرور بدوره يدعّم شرحه للمفاهيم المذكورة موجّها الأنظار إلى عمل القاضي الّذي يقضي عادة بين أمرين؛ ما معناه وجود حريّة اختيار حسبما هو معلوم (القضية)، الّتي يوافقها القدر، ليتسنّى له أن يقضي بحركة واعية تفيد اتّخاذ قرار بين نفي وإثبات، الأمر الّذي يكون فيما هو موجود باعتبار أنّه لا قضاء دون قدر. من ناحية مغايرة، لم يغفل شحرور عن وجود آيات تحيل إلى قضاء الله تعالى في حالات نادرة يشاء أن يتدخّل فيها لأنّه جعل حريّة الاختيار متروكة للبشر؛ "ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا" (الأحزاب 36). وعن قوله تعالى "وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ" ( البقرة 117) أفاد شحرور بكونها تعني أنّ الله تعالى اتّخذ قرارا. هنا، يرجع الشّارح العقلاني لمفهوم "المشيئة" بتحديد مفهومها القرآني الّذي هو "الإمكانيّة والقدرة على اتّخاذ القرار ". تطرّق هذا المفكّر كذلك إلى مفاهيم عدّة ذات صلة، منها مفهوم "الكتاب" الذّي تحتويه آيات مثل "وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ" (فاطر 11). وحسبما اهتدى إليه، فلفظ "الكتاب" يفيد تحقٌّق شروط وأسباب حدوث الأجل وهو مجموعة القوانين الموضوعيّة وليس شيئا مكتوبا محسوسا مثلما فهمه السّلف. وعن الآية المذكورة ذاتها، يتّبيّن حسب هذا الدّكتور الرّاحل أنّ الأعمار ليست ثابتة بل نسبيّة حسب الكتاب، أمّا عن قوله جلّ جلاله "وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا" (النّبأ 29)؛ فالقصد بها حسب شحرور هو عدم وجود الصّدفة باعتبار أنّ الصّدفة ما هي إلّا موقف معرفي أساسه الجهل بالأسباب الموضوعيّة لحدوث الشّيء؛ فالله أشار إلى ذلك في أكثر من موضع كقوله "َكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ" (الرّعد ). منطقيّا، لم يفوّت هنا المفكّر السّوري الرّاحل فرصة إبداء أمثلة لتسهيل الفهم في قوله إنّ كلّ معلوماتنا تقوم على مقادير، ومثالها تحليل الدّم وتخطيط القلب؛ فالمقادير هي أعلى درجة لإدراك القدر. وبطبيعة الحال، هناك أسباب يحدث بها تقصير العمر، منها القتل وتطبيق حكم الإعدام اللّذين نجدهما ضمن جملة الشّروط الموضوعيّة لانتهاء الأعمار. بالتّالي، يتّضح حسبه أنّ هذا الفعل هو أحد كتب تقصير العمر. فالأعمار ليست محدّدة بل تزيد وتنقص، وتدخّل الطّبيب يمكن أن يؤجّل الموت ولكن ليس إلغاءه. ومنه تتّضح نقطة مهمّة وهي أهمية العلم والمعرفة؛ لأنّه كلّما زادت معرفتنا بأسباب الموت كلّما ساهمنا في تأجيله. أيضا، يذكر شحرور أنّ النّفس الإنسانيّة مؤلّفة من ثلاث عناصر هي الفيزيولوجيا والقيم والمعرفة، وبالتالي تستطيع اتّخاذ القرار ولذلك تحاسب. فممّا لا شكّ فيه أنّ الله مدرك لما كان وما سيكون، ولا يكون اختيار الإنسان إلّا من ضمن كافّة الاحتمالات الّتي منحه إيّاها الله عزّ وجلّ المحيط بكلّ معارف خلقه. ومن أبلغ الدّلائل على حريّة الإنسان في الاختيار، نجد الآية الكريمة الّتي تقول: " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " (الحجر 93-92) أي حتميّة وجود حساب. بالإضافة إلى ما تمّ ذكره، وبعد محصّلة ما أتى به، عزا صاحب المؤلّفات القيّمة في تجديد الفكر الدّيني والمساهم في عديد البرامج الإعلاميّة الفكريّة لتنوير العقل الإسلامي سبب التّقاعس والتأخّر الّذي نشهده إلى أنّ التّراث الفقهيّ ترك لنا أفكارا أشبه بمسلّمات، وبارتباطها بالجهل وعدم الوعي أنتجت إنسانا ينحو إلى القدر السيّء مكتفيا بانتظار المصير عوض صنعه. بدورنا، وعقب عرض ما انتهى إليه المفكّر الإسلامي الرّاحل الدّكتور محمّد شحرور، يحلّ لنا الآن أن نحاول فهم الترسّبات الّتي أشرنا إليها في مستهلّ مقالنا، وهذا بعد أن تعرّضنا لمعالجتة القيّمة لمفهومين لطالما أتعبا العقل الإنساني. ليس من الغريب أن يتّضح جليّا قدر الخلل الحاصل في أذهان العامّة الّذي امتدّ إلى مختلف نواحي الحياة، وكذا جلّ ما يتّصل بالطّموح أو دفع الضّرر أو نظرة المجتمعات للمستقبل بما طبعها من تّسليم بالواقع في كلّ الأشياء المصيرية، ولأنّه تصوّر يقبع في شعور وفي لاشعور الإنسان، جعل هذا الأخير يخال نفسه مكبّلا عن إحداث أيّ تغيير، فظلّت مسلّمة إشكال اليوم في خانة اللّامفكّر فيه ناهيك عن التّعطيل الحاصل للعقل الإسلامي لكون كلّ شيء بالنّسبة للإنسان البسيط مقرّر سلفا؛ ما يعني أنّه لن يضيف شيئا مهما كان سعيه، بيد أنّ القضاء لا يكون طبعا إلّا في إطار القدر. هذا القدر الّذي اختصّ به الله سبحانه دون سواه وذكره في آيات منها: "إنّ الله علىٰ كلّ شيء قدير" (البقرة 109). "وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران 29). "وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (آل عمران 189). فلسفيّا، لربّما الّذي تعلّق ب "قضاء وقدر" الإنسان هو أكثر ما مسّ مسألة المصير بقدر ما يحيل إليه ميتافيزيقيّا، ولذلك برز اهتمام محموم حول هذه القضيّة الخلافيّة. إنّما على الصّعيد العمليّ، لا يجدر أن تظلّ نظرة الإنسان الحالي هي نفسها نظرة الإنسان القروسطي إزاء انتشار الأوبئة، وهذا احتراما لما حقّقه من تقدّم علميّ يروم في الأصل توسيع رقعة حريّته في إطار ما منحه الله تعالى من إمكانيّات لتحقيق ذلك وما كلّفه بفعله. فاستنادا إلى براديغم الحياة هذا، لا يجدر أن يظلّ الإنسان ستاتيكيّا، وإنّما يتعيّن عليه أن يتماشى مع متطلّبات التّغيير. ومنه، بموجب وباء كورونا، الّذي عمّر بعض الشّيء، إعادة تشكيل العقل الجمعي، بما في ذلك منطق الأولويّات والواجبات والعادات، بحكم ثبات العلاقة الطرديّة بين زيادة التّواصل الفيزيقي واتّساع دائرة الخوف من العدوى، ما يعني أنّ الإنسان بموجبه الحذر المتواصل، كالّذي يشيّد الكثير من الجدران والقليل من الجسور، وقد يقتنع أنّ "حياة الوحدة مصير كل الأرواح العظيمة" على حدّ قول الفيلسوف والفنّان الألماني الّذي انتصر للعقل والإرادة "آرثر شوبنهاور". تبعا لما ذكر، سيكون التوجّه أكثر فأكثر نحو الفردانيّة أمرا واردا جدّا وسيشهد المجتمع تحوّلات جذريّة في عاداته وتقاليده على المدى البعيد تمسّ مختلف الجوانب من سوسيولوجيّة وبسيكولوجيّة وثقافية...الخ، كما سيعاد تشكيل تمثّلات المقدّس في أذهان العامّة وكذا تجلّياته على أرض الواقع. إذن، انطلاقا من ملامح البراديغم الجديد الّذي سيطبع حياة البشريّة قدما، يتجلّى لزوم تجرّد الإنسان من مجموع قيمه الأخلاقية -الّتي كان يرى في الكثير منها واجبا- وهذا حفاظا على وجوده ونأيا بنفسه عن عداد الأرقام الّتي يسمع بها يوميّا، وبالتالي يضحى لزاما عليه اللّجوء إلى إعادة إنتاج رموزه الثّقافية والاجتماعيّة بعد أن يضطرّ لتفكيك وحدات النّسق وإلغاء العديد منها بتقليص حيّز التّفاعل الاجتماعي، ليحدث مع الوقت تغيير على مستوى بنياته الاجتماعيّة بميكانيزمات معيّنة، ما يفضي إلى ديناميّات عميقة في المجتمع. عملّيا، وحديثا عن وباء العصر، يعتقد المشاهد العاديّ لمظاهر الاستهتار بالإجراءات الوقائيّة المنوطة بالبعض أو هذا البعض ذاته، بأنّه "حرّ " من منطلق عدم الامتثال لما يراه يقيّد حريّته من مجمل أساليب الضّبط الاجتماعي، فتراه يعبّر عن رفضه ضمنيّا وصراحة بعدم الخضوع للضّغوط الخارجيّة، ما يطلق عليه بمصطلح "الهابيتوس"، إزاء الأفعال الاجتماعيّة الّتي يقدم عليها بما يحاكي البنيات النّاظمة لسلوكه. إنّما الرّاجح في الأمر هو أنّ حاملي هذه الأفكار يخالون أنفسهم بذاك الاستهتار أحرارا ! في حين أنّ ما خضع للتّقييد منذ قرون هو استخدام ملكة العقل الّذي يتحكّم في أفعالهم كانعكاس لتصوّرات وتمثّلات قابعة بالذّهن، فيمسون تحت ربقة العزوف عن الفعل والتّواري عن تحمّل المسؤوليّة وعدم الإيمان بطاقات الذّات. معروف أنّ الفارق الحضاري تعكسه سلوكات الشعوب، لذا، حريّ بنا الوقوف عند حيثيّة وجود فرق شاسع بين مجتمعات واعية، مقدامة، منظّمة، وصانعة للأمل، ومجتمعات تنظّم الأفراح لتصنع الموت، ولو على حساب صانعي حياتها ومطبّبيها الّذين يتمّ اللّجوء إليهم في آخر المطاف. واستنادا إلى ذلك، من المنطقيّ أن "تقضي" تلك المجتمعات بانتكاسات لا تخدمها من ضمن كافّة الاحتمالات والخيارات الّتي منحها إيّاها خالقها في خانة القدر وضمن مشيئته. كما أنّ إهمال العقل العلمي بمفهومه الابستمولوجي دفع بالبعض إلى غير ذي وجهة كالبحث عن أجوبة جاهزة في الموروث الدّيني تنوب عن اكتشافات علميّة على دقّتها. هنا لابدّ لبعض الأفكار ألّا تظلّ قابعة بالذّهن، ومثالها أنّه كلّما ساء السّلوك وانجرّت عنه نتائج وخيمة يتمّ ببساطة إلقاء ذا الهوان على الله تعالى وحده بحجّة المفاهيم المتوارثة ل"القضاء والقدر" الّتي جرّدت الإنسان من ماهيّته وقيمته الوجوديّة، وبدوره، لم يجد هذا الإنسان بدّا من فقدان ثقته في ملكة العقل لدرجة إغفال حقيقة مفادها أنّ من أعظم التّعاليم الّتي أمره وأوصاه بها الله تعالى "الحفاظ على النّفس الإنسانية"، الّتي هي حسب الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني كارل ماركس أثمن رأس مال في الوجود. ورغم ذلك، نأسف شديدا لوجود حالات جرّتها قلّة ثقتها في العقل لدرجة إنكار حقيقة الوباء! في وقت نشهد فيه بلدانا متقدّمة توصّلت، من شدّة احترام شعوبها للعقل وبالتّالي توفّر الإمكانيّات، إلى تقليص حيّز الخسائر. ولربّما من المفارقات العجيبة أنّه من خلال قراءة سيميولوجيّة سريعة لصور الحياة اليوميّة المنوطة بالفئة الاجتماعيّة المستهترة بخصوص مخاطر وباء كورونا (كوفيد 19)، يتّضح أنّ الخوف من القانون كثيرا ما يتجاوز الخشية من المرض والموت أو لنقل التقاط العدوى ونقلها لأقرب المقرّبين بما يعكس طبيعة حسّ المسؤوليّة لديها، ومن ثمّ يتردّد ببساطة لفظ "مكتوب"؛ وممّا يعكس تلك المفارقة موضة وضع الكمامات أسفل الذّقون، والتّعامل إزاء المرض عند حيازته وكأنّه طابو اجتماعي أو التهرّب من الكشف الطبّي خوفا من الحقيقة، ليطفو ما نخشاه حينا إلى السّطح لدى السّماع بخبر وفاة أو ما شابه، وكأنّ علم التّشريح هو القدر الوحيد في هذه الحال مثلما عدّه الطّبيب وعالم النّفس النّمساوي سيجموند فرويد. فصحيح أنّ المريض منبوذ أنطولوجيّا، ولكن لاعتبارات سوسيولوجيّة بحته. إنّ ترديد لفظ "مكتوب" إزاء نتائج التّدبير السّلبي يشعر الإنسان بأنّ حملا كبيرا قد أزيح عنه، وهكذا صار الاعتقاد عادة وتطبّعا ترسّخا في العقل الجمعي ليفرجا عن أحد أشكال الانصياع والإذعان متناسين قوله تعالى "وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" (البقرة 195). فالإنسان بموجبه التخلّص من الأفكار القائلة بالمصير المحتوم والظّروف الّتي تضرب على النّاس الذلّة والمسكنة حسب قول الفيلسوف المصري الدّكتور مصطفى محمود، وهذا ليس بالأمر الهيّن الخلوص إليه، وكأنّ التّعامل مع وثن أسهل من التّعامل مع فكرة على حدّ قول صاحب "مشكلات الحضارة" الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي. كختام، بوسع أيّا منّا أن يسائل ذاته لوهلة: هل إخفاء المرض وما يترتّب عن ذلك من أمور لا تحمد عقباها على أوسع نطاق "مكتوب" وأمر حتميّ الحدوث منذ البداية لا خيار غيره؟ هل التجوّل خارجا مع حيازة المرض ونقله لآخرين وما يترتّب عن ذلك "مكتوب"؟ هل العزوف عن ارتداء مجرّد خرقة قماش تقي الشّخص ومن معه من مرض معدي فتّاك هو ظاهرة سلوكيّة سويّة؟ هل كلّ أخطاء البشر "مكتوب" ؟ أوليست قلّة علم ومعرفة وحيلة الإنسان في تناسب طردي مع انتفاء حريّته، وبالتّالي يتحوّل مباشرة إلى شمّاعة التمسّك بفكرة الجبر أكثر؟ ومنه، هل يكفي الخطاب الدّيني الوعظي لتغيير الواقع أم أنّ الأمر يحتاج دراسات علميّة مستفيضة تبتّ في المفاهيم كلّ حين وتجدّد البحث كلّ عصر لتخاطب العقل أوّلا؟ إنّه ومن الملحّ استيعاب كيف أنّ المفهوم الحقيقي للقضاء والقدر من شأنه جعل سلوك المسلمين يتغيّر تماما إلى بحث عن سبل الحفاظ على النفس والجسد وإدراك لقيمة المسؤولية الفردية والاجتماعية، وكذا الإلمام بقيمة الإرادة الإنسانية وقيمة الإبداع الّتي تنهض بتطلّعات المجتمع، مع التحلّي بالأخلاق قولا وفعلا. فعلى لسان الملك الإغريقي "الاسكندر المقدوني" يحلّ لنا أن نقول: "تذكروا .. إنّ مصير الجميع سيتحدّد على أساس تصرف كل فرد منكم !".