القصة أقرب إلى القارئ في زمن التدوين والأدب الرقمي * المجتمع الّذي يخلو منه التفكير ولا يُشجع فيه الاِختراع لا ينتشر ولا يتطور فيه الخيال العلمي في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والقاص خالد ساحلي، عن القصة القصيرة التي ظل وفيًا لها، ويرى ويؤمن أنّها أقرب لإنسان العصر من أي جنس أدبي آخر وقد تكون الأقرب إلى النسوة كتابةً أو قراءةً في الوقت ذاته، وهذا لعِدة اعتبارات. ورغم أنّها ليست بخير –حسب إقراره- إلاّ أنها (أي القصة القصيرة) موجودة وسحرها لا يزال تأثيره على المشهد الثقافي والأدبي. كما تحدث عن ضرورة وجود واكتساب الوعي لدى الكُتّاب، الوعي بمدى أهمية القصة القصيرة ومكانتها المرموقة في مشهد الأدب والإبداع وأنّ الحضور القوي والكثيف للرواية لا يعني أنّ زمن القصة القصيرة قد انتهى، إذ قال في هذا السياق: «نحن بحاجة إلى خلق ما يلزم من الوعي للكُتّاب أنفسهم لإجبارهم على شق طريقهم واختيارهم دون التمسك برأي الكُتّاب الذين يُسوّقون لفكرة أنّ الزمن زمن الرواية». * حاورته/ نوّارة لحرش للإشارة خالد ساحلي، كاتب وقاص وناشط جمعوي، صدرت له، ثلاث مجموعات قصصية عن دار ميم للنشر، هي على التوالي: «لوحات واشية» عام 2008، «الحكاية الزائدة عن الليلة الألف» عام 2009، «جحيم تحت الثياب» أواخر 2014. كما صدر له كتاب فلسفي بعنوان «الكتابة والوجود» عن دار الوطن عام 2012. وصدرت له عام 2005 مجموعة من قصصه في كتاب إلكتروني مشترك مع مجموعة من كُتّاب القصة القصيرة جدا في الوطن العربي. وله رواية بعنوان «الغرق»، ومخطوطات أخرى تنتظر فرصة الطبع. uتتنوع كتاباتك بين الدراسات والمقالات وبين الكتابة الأدبية وبخاصة القصة القصيرة والقصيرة جدا. لكن الملاحظ أنّ هذا النوع من الأدب لم يعد يحتل حيزا معتبرا من المشهد الّذي اكتسحته الرواية بدرجة كبيرة والشِّعر بدرجة أقل. لماذا برأيك؟ خالد ساحلي: القصة القصيرة جنس أدبي، جنس اللحظة وتُؤرخ للراهن والّذي هو في صالحها، في زمن التدوين وفي زمن الأدب الرقمي القصة أقرب إلى القارئ أكثر من الرواية، يستطيع الإنسان أن يقرأ القصة في اِعتراف ناشط حقوقي وفي تعليق رجل سياسي، في بوح متظلم وفي دفاع مواطن عادي ينشر وقائع ما حدث له في جريدة أو في موقع إلكتروني بل هي حاضرة الأسواق والمقاهي، القصة القصيرة أقرب لإنسان العصر من أي جنس أدبي آخر وقد تكون الأقرب إلى النسوة كتابةً أو قراءةً في الوقت ذاته، فالمرأة اليوم مع اِنشغالاتها المنزلية وواجباتها الزوجية لا تستطيع المواظبة والاِستمرار في تصفح كتاب، هي تفضّل القصة على قراءة رواية لأنّها لا تملك الرغبة والمقدرة الكاملة على متابعة أحداث رواية وشخصياتها المُتعبة وفصولها المُتشعبة المُتماسكة أحيانًا والمُتقطعة أحيانًا، المرأة لا تستطيع أن تُبقي في ذاكرتها مراحل الرواية ولم تعد البتة متأثرة بنفاق لغة الشِّعر الكاذبة، إنّ من يصبح له أطفال لا يمكنه إلاّ أن يحفظ قصصًا ليرويها لأطفاله، لا يمكنه إلاّ أن يقرأ ويُسرع في إنهاء ما قرأ حتّى يُبقي في روحه جمال اللّغة وسحر السرد والأدب. زمن الشِّعر ولى وباِمتياز وعصر الرواية إن لم يكن قد ولى فهو في طريق فقدان رونقه وبريقه. في الغرب ظهر نوعٌ جديد من الوعي يبرز من خلال الثورة السبرانية والمعلوماتية، وما أوفر القصص التي تُنشر على المدونات وحتّى المواقع الشخصية الصحفية والمنتديات، هذه الأفضية الجديدة التي تتجنب الملل لتتماشى مع متطلبات العصر. لا عجب أن تجد القصة القصيرة من يُغازلها ويحبها كتابةً أو تفرض ذاتها كفن أقرب إلى اللحظة وإلى الغرض. uهل الكاتب الجزائري لم يعد يهتم بكتابة القصة ولم يعد الشغف بها وبعوالمها كما كان الأمر في السبعينيات والثمانينيات؟ وهل تراجعت مكانتها؟ خالد ساحلي: القصة اليوم في الجزائر ليست بخير والكُل يعرف أنّ الّذي ليس بخير هو الثقافة والأدب في بلادنا وما القصة إلاّ جزء من الكل في المشهد السردي الجزائري. القصة القصيرة موجودة وسحرها لا يزال تأثيره على المشهد الثقافي بل إنّها كلّ يوم تجد من يخطب ودها ويتقرب إلى عرشها عله يفوز بعطائها وودها ليصير جنديًا من جنودها. الحقيقة التي يجب الإقرار بها ولو أنّ الحقائق كثيرة ولكل وجهة نظره كما هو معروف ومتداول فإنّ الجوانب المُتعددة من المشهد الأدبي الجزائري تكاد تكون مبتورة من الواقع المغربي والعربي والعالمي، هناك اِنغلاق وغياب مُساءلة نقدية وعلمية في الجزائر حول ما يُكتب وما يُنتج ولو أنّ التراكم الكيفي والنوعي الجيّد هو أساس المعرفة والإبداع، نحن لسنا ضدّ القبيح من الجديد فحتّى للقُبح جمال من خلاله نزداد اِكتشافًا للجمال، إنّنا لا نجد من يُقدم هذا الزخم السردي الأدبي والفلسفي الّذي يحمل فيه متناقضات كثيرة للمجتمع ويُعالج السياسي والنفسي وكلّ ما يتعلق بالإنسان الجزائري من الفرد العادي الموجود في أعماق مدينة فرجيوة (على سبيل المثال) إلى المواطن الغير عادي الّذي يتردّد على ساحة الشهداء في العاصمة. الكاتب روحٌ مُحلّقة مُبدعة حين ينتج قصة قصيرة في دقائق ليمسك بتلابيب اللحظة وموضوعها وهدفها دون إغفال وإهمال. القصة القصيرة لا يمكنها أن تكون أدبًا اِستعجالاً يضر بها لأنّها نتاج الوعي الّذي يخوض في مناقشتها أو مساءلتها لموضوع الواقع بشكلٍ إيجابي قبل نقلها للآخر. المشهد الأدبي والثقافي في الجزائر وسط شبه فارغ من مثقفيه، من كُتّابه ومبدعيه، منهم من اِنزوى ومنهم من ترك دودة العقل ومنهم من رمى بقصصه في الرفوف والأدراج وعلى الأقراص الصلبة ليأكلها التلف ويعبث بها الغبار. شيءٌ واحد يعرفه الجميع: القاص أو أي مبدع على السواء لا أحد ينظر إليه، نساه البشر وأقصاه السياسي وصار أضحوكة الجهلة وغرض السماسرة، ناوأه جهلة الدين والعِلم وحرّضوا ضدّه القراء. أضف إلى ذلك غياب القارئ الّذي فقد ذوقه لكثرة الرداءة وطفوها إلى السطح على حساب الأعمال الكبيرة والجيدة، المُؤسف حقًا أنّ بعض الكُتّاب الذين يتخذون من الأدب ترفيهًا لتزجية الوقت هم من يتركون فضلات قصصهم في المكتبات ولأنّهم ببساطة يملكون المال لطباعتها وقد يكون لهم نفوذ. uهل هناك قارئ للقصة القصيرة. قارئ يذهب للمكتبات خصيصًا ليبحث عن كُتب القصة؟ خالد ساحلي: هل هناك قارئ للقصة القصيرة؟ السؤال صعب لأنّ هناك قارئا لجرائد لا تنشر غير الأخبار المخزية والمفجعة، هناك بعض الجرائد اليومية التي يستحي الإنسان أخذها للبيت لِمَا فيها من سفالة في نشر الأخبار وإن فتشت في داخلها عن نصف صفحة أدبية فلن تجدها، بكلّ صراحة ماذا قدّمت بعض الصُحف للمشهد الأدبي والمعرفي والثقافي في الجزائر؟ والتي تسمي نفسها حرة وهي لا تنشر مقالاً واحداً أو قصة يهتدي بها قارئها لمعنى الحرية، نحن بحاجة إلى مساءلتها، أليس كذلك، فهي تدّعي معرفتها بالبحر وهي لم تضع مرّة واحدة رجلها في الماء ولا تعرف الشاطئ. نحن بحاجة إلى خلق ما يلزم من الوعي للكُتّاب أنفسهم لإجبارهم على شق طريقهم واختيارهم دون التمسك برأي الكُتّاب الذين يسوّقون لفكرة أنّ الزمن زمن الرواية، نحن في سوق أدبية إن كانت لديك سلعة على قدرٍ كبير من الجودة فالكل يقصدك ويشيد بِمَا عندك وإن كانت على غير ذلك فلا عيب إن بقت مُكدسة ولو كانت بالأطنان، القصة القصيرة تسويقٌ إن صح مني التعبير، وهي قادرة على تسويق نفسها بنفسها دون جواز مرور، ولا جمركة ولا دمغة، نحن بحاجة إلى خلق تقاليد للقارئ ليرمي ثقافة الاِستهلاك الثقافيّة ونقنعه بصفةٍ عامة أنّ القصة القصيرة فلسفة وهي مرجع حقيقي لعصر ثقافة الصورة. uرغم قولك بأنّ القصة القصيرة ليست بخير، إلاّ أنّ كلامك في الأخير ينتصر لهذا الفن. هل يعني هذا أنّ للقصة القصيرة، مكانتها وأمكنتها وبريقها الجميل رغم الاِكتساح الطاغي للرواية على مشهد الأدب؟ خالد ساحلي: القصة القصيرة في الجزائر عريقة وفي كلّ قِواها ويمكنها الدفاع عن نفسها أمام أي هجوم كاسح من الأنواع الأخرى لأنّها تملك سلاحًا ساحراً قويًا تُخبئه وتتميز به عن غيرها من الألوان والأنواع الأدبية، إنّها الشجرة الوافرة الثمار التي تعطي أكلها وتختزل الوقت لقاطفها فلا تتركه يتسلق ويتيه في فروعها إنّما يمد يده ليتساقط عليه الرطب الجني، تبقى الإشكالية فيمن له ذوق في جمال الثمرة قبل أكلها وفيمن لحقته اللعنة فلا يرى على جانبي الطريق لا الشجرة ولا الثمرة ولا جمالها. المُستقبل للقصة القصيرة التي تعترف بجانب اللامعقول في العالم والمعقول وتملك الصلاحية في الزمن ولا تحتاج إلى تنفس اِصطناعي، إنّها ضرورية للواقع ليتحقّق للإنسان المعقول الّذي يُمكِّنه من التغلب على العوائق الكثيرة، ويتحقّق له فرصة السعي في معرفة وإدراك ذاته وذوات الآخرين، القصة القصيرة أصعب جنس أدبي باِعتراف النُقاد لأنّها تنتقل بين النقيض والنقيض في جدلٍ لا تُتاح له كثرة الوقت ويفرض عليها كثيرٌ من الاِختزال. المستقبل للقصة القصيرة لأنّها أقرب إلى صلب الحقيقة ويعترف أشخاصها كثيراً بالخطأ، فالخطأ مرحلة ضرورية للوصول إلى يقين المتعة. كثير ممن قرؤوا قصصي القصيرة أخبروني بكتابة قصصًا مكمّلة لبعض القصص التي كتبتها من قبل وافترضوا كثيراً من النهايات لها، تأكدتُ بعدها أنّني أثرتُ في المتلقي ونجحتُ في الحصول على الأثر. القصة القصيرة جزء ضروري من الرواية ولا وجود للرواية إلاّ من خلال القصص. المُقاتل يعرف أنّ كلّ الأسلحة مصنوعة من حديد فما المعنى من سلاح أبيض وآخر أسود. uنوعٌ آخر من الأدب يشهد إجحافًا في حقه كِتابةً ودراسةً وتناولاً. إنّه «أدب الخيال العلمي»، فما موقعه في خارطة الأدب الجزائري؟ ولماذا مُعظم الكُتّاب يعزفون عن كتابته ولا يغامرون صوبه، ولا يسعون للاِشتغال فيه/وعليه وتطويره وتحقيق مساحة له يتموقع فيها وبفضلها؟ وهل تكفي التجارب القليلة جدا التي حاولت الإبداع في هذا المجال كي يتحقّق ويكتمل على أرض الكتابة؟ خالد ساحلي: «أدب الخيال العلمي» ذاك الفن الّذي يمزج بين الأدب والعِلم، الثنائية المركبة التي تمنح القارئ الخيال حتّى يستشرف المستقبل من الواقع حمايةً من خلاله أو هروبًا منه لأجل معالجته وتنبيهنا إلى ما يترتب عن سلوكات صنعناها والتي قد تُدمر الإنسان كذات وتمنح الفناء للبشرية والمعمورة على السواء، في ذات الوقت هو معالجة المستحدث مِمَا تنتجه التقنية والتكنولوجيا والبيولوجيا وكلّ ما اِتصل بالعِلم بصفةٍ شاملة. من أشهر كُتّاب هذا الفن الكاتب الفرنسي جول فيرنو والروائي الاِنجليزي ه.ج. ويلز وكليهما اِستشرفا المستقبل من خلال الواقع وتحقق بعضه، فالأوّل من خلال اِختراعه لقصة الغواصة النووية والثاني لاِختراعه للطاقة الذرية. إنّ «أدب الخيال العلمي» نجح بدرجةٍ كبيرة وبقوّة في أوربا، فهل هو محل اِهتمام الأدباء في الجزائر والمخرجين والقُراء حتّى؟ إنّ المجتمع الّذي يخلو منه التفكير ولا يُشجع فيه الاِختراع ويسبق فيه الجاهز على المحضّر لا ينتشر ولا يتطور فيه الخيال العلمي، ومجتمع فاقد للقراءة لا يمكن أن يزدهر فيه الأدب أصلاً، فكيف للكاتب أن يُغامر في فن يعلم سلفًا أنّه سيفشل في واقعه؟ خلقٌ عظيم من الشعب يجهل المصطلحات العلمية والتقنية التي قد تستعمل في كتابة الروايات حتّى أنّ الكاتب ذاته قد تنفلتُ منه هذه الأخيرة، فالعقل هنا لا يُحفّز على الاِبتكار حتّى لشخصيات ولرؤى مستقبلية في ظل عبودية للصورة ولنشرات الأخبار ولدعاية منفرة لكلّ ما هو إبداعي، فالكثير من المبدعين يقصون من طباعة أعمالهم الجيدة فكيف إذا كتبوا أدبًا راقيًا يحفزُ العقل ويفتح مجالاً واسعًا ومسافات للمخيلة ويَطرحُ عِلمًا وحلولاً لِمَا هو قائم من مشكلات أو يفضحُ ما سينتج من مشكلات؟ إنّ مجتمعنا محكومٌ ببيئة الاِستيراد والتصدير وبأدب العشيرة والقبيلة والمُوالاة وبأدب الاِستعجال أو بروايات الدم والنار في تاريخنا القديم والحديث وبالروايات الغيبية الفانتازية التي تهرب لا إلى ربط جسر لحل مشكلات أو اِبتكارات أو حتّى لتحفيز العقل على قبول الواقع العلمي والتكنولوجي والبحث في حيثياته لأجل تطويره بل إلى التستر في حكايات غرائبية متصلة بالتاريخ القديم تقية من المستبد ومن الرقيب. لقد أخذنا بمنتج الغرب حتّى في الثقافة والأدب والفن، وبذلك فنحن قد اِستنسخنا مصطلحات «أدب الخيال العلمي» فكيف لنا أن نبدع «أدب الخيال العلمي» من خلال بيئتنا التي تحجر العقل وتكبح الخيال في ظل اِنتصار الأدب السياسي وأدب السجون والحروب والتشرد والغرق، بيئة يهيمنُ عليها الدليل الديني الخُرافي ويدعمه المال العربي. قد يقول قائل التشاؤم يلبس ثياب اِعترافنا بغياب شبه كلي لهذا الأدب من الساحة الثقافية والحقيقة أنّ القارئ يستهويه كِتاب «ألف ليلة وليلة» و»روايات الجن» على أن تستهويه رواية رجل آلي يتكلم ويبحث عن الإنسان ويتحاور ويستعد معه لتحرير وإنقاذ الإنسان من نفسه.