لا يزال الكثيرون يتذكرون مقولة الرئيس الراحل هواري بومدين «من الونشريس هاز الشكارة تاع الدراهم يوصلها حتى لمغنية ميخصش منها فلس واحد..» و التي تم توارثها جيلا بعد جيل، للاستدلال على النزاهة و الثقة والأخلاق الطيبة، و خاصة حب الوطن، التي لمسها الرئيس الراحل في المجاهد أحمد شنافة الذي كلفه بمهمة نقل أموال من منطقة الونشريش إلى الحدود الغربية سيرا على الأقدام، في ما يعرف بقصة « الشكارة». النصر زارت المجاهد أحمد شنافة في مقر سكنه بمدينة المالح بعين تموشنت، لنقل تفاصيل القصة التي خلدت الرجل إضافة إلى الحديث عن مساره النضالي. كانت الساعة تقارب منتصف النهار عندما وصلنا إلى مدينة المالح التي لازالت تحفظ بين أزقتها ذاكرة الوطن الذي نهب الاستعمار ثرواته على مدار أكثر من قرن، وهي اليوم تحضن بدفئها التاريخي أحد رموز الثورة التحريرية الذي خلده الرئيس الراحل هواري بومدين بمقولته الشهيرة السالفة الذكر. تعمدنا سؤال العديد من الشباب عن منزل المجاهد أحمد شنافة، لكننا لم نجد من يدلنا عليه، فهم لا يعرفونه بهذا الاسم، بل باسم «أحمد الجندي»، مثلما علمنا لاحقا، في حين قادنا إليه طفل لا يتعدى العاشرة من عمره، كان يعتقد أننا نبحث عن زميله في المدرسة، و هو حفيد المجاهد الذي كنا نبحث عنه. فقد خلدت عائلة شنافة، اسم المجاهد عن طريق حفيده الذي سيحمل مع اسمه «أحمد شنافة»، مسيرة تاريخية مشرفة. ثقة بومدين في الشباب جعلته يكلفني بالمهمة بالرغم من أننا لم نحدد موعدا مسبقا للزيارة، قصدنا بيت المجاهد، حيث تم استقبالنا بحفاوة من طرف زوجة المجاهد الذي وجدناه طريح الفراش، بسبب تعرضه لكسر في رجله منذ عامين، ومنذ ذلك الوقت لا يستطيع الوقوف، خاصة مع تقدمه في السن، فهو في 85 من عمره، كما قالت للنصر زوجته. و رغم مرضه، ظهرت على وجه عمي أحمد علامات الفرح بزيارتنا، و لم يتوقف عن الترحيب بنا، معربا عن استعداده ليروي لنا كل ما بذاكرته من قصص كفاحه ضد المستعمر، و قد علمنا لاحقا أنه تم تكريم المجاهد من طرف الإتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية، فرع ولاية سعيدة، بمناسبة ذكرى أحداث 11 ديسمبر، عقب زيارتنا له. هذه الأحداث التي كانت بدايتها بعين تموشنت، لم يحضرها المجاهد شنافة مع سكان منطقته، الذين ثاروا ضد المستعمر، لأنه كان رفقة قادة الثورة في الجبال، و كانوا يتابعون ما يجري ويفتخرون بالشعب الذي ثار من أجل تحرير الوطن، مثلما يفعل المجاهدون والثوار في الجبال. وكانت أبرز حادثة ارتكز عليها حديثنا الذي تواصل لأكثر من ساعة مع المجاهد شنافة، هي مقولة بومدين التي أخرجته للعلن، ليكون قدوة للأجيال، و هو ما قصده الرئيس بومدين عندما قالها. و أكد المتحدث أن الراحل بومدين لم يكن رئيسا للجمهورية فقط، بل هو القائد الثوري الذي كان محبا للوطن، و صارما في قيادته، في حين كان يضع ثقته في الشباب، والدليل على ذلك أنه وثق به وحمله مسؤولية كبيرة، رغم صغر سنه، و رغم أنه لم يكن يعرفه لمدة طويلة. قصة «الشكارة» أي كيس الأموال الذي حمله المجاهد أحمد شنافة أو «أحمد الصغير» و هو اسمه الثوري، من منطقة الونشريس إلى غاية الحدود الغربية بمغنية، بدأت في نهاية 1956 و بداية 1957، عندما اقترح العقيد عثمان، الذي كان قائدا للولاية الرابعة، على بومدين، أن يقوم ابن منطقته العامرية و صديقه المجاهد شنافة بالمهمة، لأنه محل ثقة وأخلاقه عالية، فوافق بومدين. و تم اختيار المجاهد مولاي ملياني، ليرافقه في رحلة سير على الأقدام دامت ثلاثة أشهر، و قال المتحدث أنهما كانا يجدان أحيانا من يطعمهما و يؤمن لهما الطريق، لكنهما كانا في أحيان كثيرة يضطران لأكل بعض النباتات البرية، إلى غاية وصولهما إلى المنطقة. و أضاف أن اسمها «برقم» بالحدود الغربية، و هناك كان يلتقى بمن يستلم الأمانة، مشيرا إلى أنه لم يسأل قط ولا يعلم قيمة المبالغ المالية التي كان ينقلها، مشيرا إلى أنه قام بنفس المهمة عدة مرات، بفضل إخلاصه وأمانته والثقة الكبيرة التي وضعها فيه بومدين. و بالرغم من كل المخاطر التي كان يواجهها، و منها الأسلاك الشائكة المكهربة و الألغام المزروعة على طريق الحدود، و كذا الرادارات لتشديد المراقبة، إلا أنه كان يتمكن بمعية زميله من اجتياز الحدود عدة مرات في إطار مهمات مختلفة، و منها العلاج في المستشفيات المتنقلة في وجدة، أين التقى بالمجاهد بن بخيت، ابن منطقته، الذي أخبره بأن عدة أفراد من عائلته يقيمون في وجدة، فقد عاش يتيما، و لم يكن يعلم عنهم شيئا. وغداة الاستقلال تقلد سي شنافة، عدة مناصب في صفوف جيش التحرير، ليصبح ضابطا، بعد أن التحق بالمجاهدين وعمره لم يتجاوز 18 سنة. أصغر عناصر مجموعة العقيد عثمان ينحدر المجاهد أحمد شنافة من منطقة العامرية، التابعة لولاية عين تموشنت، التي كانت تجمع مئات العائلات من المعمرين، أغلبهم من الإسبان الذين لم يغادروها، والبقية فرنسيين نهبوا أراضي السكان الأصليين الخصبة التي كانت تنتج كل أنواع الخضر والفواكه، خاصة العنب، و لاتزال بعض المعاصر قائمة لحد الآن، تشهد على حقبة هامة من تاريخ الجزائر. من هناك انطلق الشاب أحمد شنافة في رحلة طويلة، ليلتحق بصفوف المجاهدين في الونشريس سنة 1956، و بما أنه كان أصغر عناصر المجموعة التي كان يقودها العقيد عثمان، لقب ب «أحمد الصغير» و قد شارك في عدة معارك ضد المستعمر، أبرزها معركة الغوالم جنوبوهران، وهي المعركة التي كان يقودها الشهيد بوكنبوش، وفق محدثنا، و تكبدت خلالها فرنسا خسائر فادحة في العتاد والأرواح، واستشهد فيها الكثير من المجاهدين الذين صمدوا أمام ترسانة المستعمر لمدة ثلاثة أيام. وقد أصيب المجاهد شنافة خلال نفس المعركة في رأسه، متأثرا بانفجار قنابل رمتها طائرات العدو على المجاهدين في ساحة المعركة، دون أن تستثني المدنيين العزل، وبعد إصابته وجد نفسه في منحدر الوادي، المار من هناك، و قربه جثث الجنود الفرنسيين التي جعلها درعا له، قبل أن يلتحق به رفاقه، ليقدموا له الإسعافات اللازمة في صباح اليوم الموالي. وشارك المجاهد شنافة في عدة معارك أخرى بالجهة الغربية للوطن، و روى لنا فصولا منها ، لكنه كلما تذكر أحد رفاقه الذين استشهدوا تغلبه دموعه، و لاحظنا أنه تحدث عنهم أكثر مما تحدث عن نفسه، وكأنه كان يقول لنا «هم استشهدوا لا يستطيعون الحديث عن أنفسهم، أما أنا فلا أزال على قيد الحياة ،و يمكن أن أنوب عنهم لأحكي قصصهم».. تلك القصص دون جزءا منها بيده عندما كان بصحة جيدة، و يستغل اليوم كل الفرص ليروي ما تبقى منها لأحفاده، عندما يجتمعون حوله، أو لزواره من مختلف ولايات الوطن.« الذي يحبه الله يستشهد في المعارك الكبرى»، عبارة كان يرددها المجاهدون للرفع من معنويات و عزيمة بعضهم البعض، أثناء اشتباكاتهم مع جيوش العدو فيكبدونها خسائر كبيرة و يهزمونها. سقطت الدموع من عيني سي شنافة وهو يردد ذات العبارة خلال حديثه إلى النصر، كما كان يردد هذا البيت من النشيد الوطني « و اكتبوها بدماء الشهداء و أقرؤوها لبني الجيل غدا» و شدد المتحدث على ضرورة كتابة تاريخ الثورة التي سقيت بهذه الدماء الطاهرة، من أجل أن يحمل شباب اليوم المشعل، ويواصل المسار، للحفاظ على الجزائر، إنها وصية المجاهد سي أحمد الجندي، لجيل اليوم والغد، الذي قال أنه جيل يعرف كيف يحمي البلاد من التكالب الخارجي، و ثقته كبيرة في هذا الشباب، كما أكد، لتحمل مسؤولية المحافظة على الوطن، لأنه سليل الشهداء. طارق شنافة الجزائري الذي نجا من تفجيرات نيوزيلندا يبدو أن عائلة شنافة بعين تموشنت، لم تخلدها مقولة الرئيس الراحل هواري بومدين فقط، لكن خلدتها أيضا حادثة التفجيرات التي طالت مسجدين بنيوزيلندا سنة 2019 ، على يد أعداء للإسلام والمسلمين هناك، لم نكن نعلم بذلك قبل أن نقصد العائلة، لكننا عندما سألنا سائق السيارة الذي أوصلنا إلى مدينة المالح عن مقر سكن المجاهد أحمد شنافة، قال لنا أنه لا يعرف المجاهد، لكنه يعرف ابنه طارق شنافة الذي يقيم في نيوزيلندا، و هو الجزائري الذي نجا من تفجيرات مسجدين هناك، راح ضحيتها أكثر من 100 مصل كانوا يؤدون صلاة الجمعة. هذه الحادثة تناولتها عدة وسائل إعلام، و قد أصيب خلالها طارق بجروح في مختلف أنحاء جسمه، وهو اليوم أب لطفلين، ولا يزال يعيش في نيوزيلندا، كما أخبرتنا والدته عندما سألناها عنه، مشيرة إلى أن زوجها أطلق عليه اسم أبرز قادة الثورة بالجهة الغربية، وهو سي طارق، صديقه ورفيقه في الكفاح، و كأنه نفخ فيه روح الكفاح، فطارق شنافة اليوم، يمزج بين الثورة ضد الاستعمار والصمود ضد الإرهاب و مكافحة الكراهية ضد المسلمين.