فقد وسط مدينة قسنطينة جزءا هاما من هويته السكنية، و تحوّل إلى فضاء تجاري كبير لبيع الملابس و الأواني، فأغلب الأحياء أصبحت مناطق نشاط تغزوها واجهات الألمنيوم و تحتل الكراسي أرصفتها، لمنع المواطنين من ركن سياراتهم على مقربة من المحلات، ما خلّف فوضى بصرية أتت أيضا على جزء من النسيج الحضري القديم، أين تنتشر بازارات الألبسة و تعرف بنايات عديدة أشغال تحسين و إعادة تقسيم، لا تحترم في العموم الجانب الجمالي ولا الخصوصية الهوياتية و الهندسية للمدينة، كما أن بعضها يهدّد تماسك النسيج المترابط الذي يمتد إلى غاية المدينة القديمة، أين كان من المفترض إنجاز مشروع سوق كبيرة للحرف التقليدية. سوق الحرف مشروع لم ير النور خلال تحضيرات تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، تكرر الحديث عن استحداث سوق للحرف التقليدية بوسط المدينة، و ذلك من أجل استغلال أمثل لفضاءات القطاع الحضري القديم الناشط تجاريا، بعيدا عن محيط السويقة ، فاقترح في البداية الفضاء الواقع خلف فندقي «نوفوتيل» و «إيبيس»، لإنشاء مركز للحرف، لكن الفكرة لم تجد طريقها للتجسيد، بالمقابل اقترح منتخبون استغلال محلات الأنفاق « سوتيران» لفتح رواق عرض خاص بالصناعات التقليدية، كما كان هناك اقتراح لتحويل فضاء ال «مونوبري» بشارع 19 جوان، إلى معرض للصناعات التقليدية، تماشيا مع عملية ترميم الواجهات و إعادة الاعتبار للشارع و لطريق جديدة « شارع العربي بن مهيدي « كذلك، لكن المشروع الحلم لم يتحقق، بل تم نقله إلى خارج البلدية الأم، و تحديدا نحو المدينة الجديدة علي منجلي، أين شرع في إنشاء 265 محلا بالوحدة الجوارية 17، حسبما أكدته مصالح مديرية السياحة للنصر، في وقت سابق، مع الإشارة إلى أن المشروع بلغ نسبة إنجاز بلغت 80 بالمائة، كما تلقت المديرية العام الماضي فقط، 800 طلب استفادة من قبل حرفيين، للالتحاق بالمركز بعد دخوله حيز الاستغلال. بالمقابل لا تزال تجارة الملابس و الأواني و المفروشات، بالإضافة إلى خدمات الإطعام ، تطبع مختلف أحياء و شوارع قسنطينة القديمة، في ظل غياب تام للتناسق بين واجهات المرافق التجارية، و النمط الهندسي العام للفضاء العمراني القديم. منازل مصنّفة تتحوّل إلى بازارات و مشاريع سوبيرات يذكر أن بداية الألفينيات، كانت بمثابة محطة رئيسية عرفت طغيان الأنشطة التجارية على مباني النسيج القديم، بما في ذلك بنايات حي القصبة و شوارع العربي بن مهيدي و 19 جوان، و كذا رحبة الصوف، فالاستغلال السكني تراجع بشكل كبير، مع عمليات الترحيل المتتالية، بسبب قدم العديد من المنازل و انهيار بعضها، بفعل عوامل الزمن و كذا التخريب المتعمد. و الملاحظ أن السنوات التي تلت ذلك، عرفت إفراغ عدد من المباني من سكانها، و تحولها بعد مدة إلى بازارات، وقد أخبرنا بعض التجار الناشطين بها، بأن ملاكها اشتروها من ملاك سابقين بعضهم ورثة، مضيفين بأن أصحابها ليسوا فقط من قسنطينة، بل هناك مستثمرون من عين فكرون و شلغوم العيد، و كذا وادي العثمانية، أما عن تكاليف الكراء، فقالوا بأنها تختلف، حسب المنطقة و طبيعة البازار أو المجمع التجاري. قال لنا الصادق، صاحب محل لبيع الأكسسوارات، بأحد المجمعات التجارية بشارع العربي بن مهيدي، فإن أسعار كراء المحلات تبدأ من 31 ألف دج إلى 35 ألف دج شهريا، حسب مساحة المحل و موقعه داخل البازار، ففي شارع 19 جوان « رود فرانس» مثلا ، تتراوح الأسعار بين 18ألف دج إلى 30 ألف دج شهريا، أما المشكل الأكبر بهذه الفضاءات التجارية، حسب عبد الغاني، تاجر ملابس نسائية، فيتعلق بضعف الإضاءة و التهوية ناهيك عن ضيق مساحات المحلات، التي قد لا تتعدى بعضها 10 أمتار فقط، لأنها كانت في السابق غرفا للنوم أو حمامات أو مطابخ وغير ذلك. و تعرف هذه الفضاءات التجارية تزايدا ملحوظا كل سنة، حسب مصالح التجارة بقسنطينة، إذ يبلغ عدد المراكز التجارية على مستوى البلدية الأم وحدها 32 بازارا، بينها 18 تخص أشخاصا طبيعيين، في حين تعود ملكية 15 أخرى لأشخاص معنويين أو مؤسسات، علما أن موضة الاستثمار في مشاريع فضاءات التسوق المفتوحة أو « سوبيرات»، باتت رائجة أيضا، إذ تتلقى المديرية شهريا طلبات جديدة للترخيص بفتح محل من هذا النوع، على مستوى بلدية قسنطينة بكل تفرعاتها. واجهات الألمنيوم تشوّه الهوية الهندسية هذه المشاريع التجارية العصرية ورغم أنها تساهم بشكل كبير في الحفاظ على حركية المدينة القديمة، إلا أنها خلفت تغييرات جذرية مست واجهات البنايات القديمة المصنفة ضمن القطاع المحفوظ، الذي يفترض بأنه معني بعملية الترميم و إعادة الاعتبار المبرمجة قبل سنوات، في إطار تحضيرات عاصمة الثقافة العربية، فبالرغم من أن بعض العمليات كلفت ملايين الدولارات، على غرار المخالصة الخاصة بعملية تأهيل واجهات شارع العربي بن مهيدي، التي قدرت بحوالي 19 مليون دولار، إلا أن ديكوارت الألمنيوم البيضاء و الحمراء و الزرقاء ، باتت تطغى على مداخل و شرفات العديد من المباني بالشارع، وذلك تماشيا مع موضة رائجة ترى المهندسة المعمارية العمارنية سامية بن عباس كغوش، بأنها تفتقر للجمالية، كما تعد تشويها للهوية العمرانية و الهندسية لبنايات النسيج الحضري القديم، ذي الخصوصية العالية، سواء في ما يتعلق بمواد البناء التي يعتمد عليها أو تناسق الواجهات و أناقة الأسقف المغطاة بالقرميد الأحمر، كما قالت. حسب بن عباس، فإن انتشار التجارة في الأحياء و الشوارع المصنفة ضمن الحيز المحفوظ، ليس أمرا سيئا، بل هو ضروري لاستمرار الحياة في هذا القطاع من المدينة، خصوصا في ظل توقف عمليات الترميم و تزايد خطر انهيار هذا النسيج و زواله نهائيا، لكن المشكل، كما أوضحت، يكمن في عشوائية التعديلات التي يتم إدخالها على المباني، بما في ذلك الاستعمال المفرط للألمنيوم الذي لا يتطابق جماليا مع الحجارة والقرميد و هندسة الشرفات و المواد النبيلة التي بنيت بها المنازل القديمة، ناهيك عن خطورته العالية باعتباره مادة سريعة الالتهاب و لا يمكن معها ضمان شرط التهوية الطبيعية للفضاءات. هذا العنصر، كما قالت المهندسة، يعد دخيلا على البنايات في الجزائر، وأي عملية إعادة استغلال للقطاع المحفوظ عموما، يجب أن تراعي، حسبها، البعد الهندسي والجمالي و الهوياتي للمباني، حتى وإن تعلق الأمر بالاستغلال التجاري، داعية إلى تطبيق مخطط الحفظ الذي سبق وضعه. * رئيسة لجنة التعمير بالمجلس الولائي لامية جرادي التعديلات العشوائية خطر على الهيكل العام للمباني من جانبها أوضحت المهندسة و رئيسة لجنة التعمير بالمجلس الشعبي الولائي لامية جرادي، بأن التعديلات العشوائية التي تجرى على المباني القديمة، قصد تحويلها إلى فضاءات تسوق أو مراكز تجارية، من شأنها أن تخلف أضرارا كبيرة، في حال تمت دون مخطط دقيق أو مراجعة، خصوصا و أن غالبية البناءات المصنفة قبل سنة 2000 ، قديمة و أرضيتها هشة ومنها ما هو آيل للسقوط، لذلك فإن إدخال البلاط الحديث عليها، أو الاعتماد على الإسمنت في إعادة البناء، قد يفرض ثقلا زائدا على هياكلها و يضاعف احتمال ميلانها أو خطر انهيارها، وهي تفاصيل لا ترى بالعين المجردة و لا تلمس عن طريق الملاحظة السطحية كما قالت، لكن يمكن التأكد منها عن طريق الخبرة التقنية. كما اعتبرت المتحدثة أن التعديلات لا تشمل المساس بالجانب المعماري فحسب، بل الجانب الجمالي و التاريخي للقطاع القديم، مضيفة بأن هدم بعض الجدران الحاملة أو تغيير مواقع الحمامات و المراحيض، من شأنه أن يضر الهيكل العام لأي مبنى، حتى وإن كان حديثا. الخطر في هذه الحالة يكمن، حسبها، في كون أغلبية منازل و بنايات النسيج القديم متلاصقة و متراصة، و تعتمد في الغالب على جدران خارجية مشتركة، ناهيك عن جانب سلبي آخر يتمثل في القيام ببعض الترميمات، دون الاعتماد على مواد نبيلة، و استعمال مادة الألمنيوم لتحديد الواجهات، وهو أمر غير مستحب، على اعتبار أن هذه المادة غير صالحة في المدن الساخنة، لأنها تسبب الإرجاع الحراري. جرادي قالت، بأن الجانب الأمني يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند تحويل بناية إلى مركز تجاري أو سوبيرات، لأن العشوائية، قد تتسبب في انهيار أجزاء من البناية، كما حصل مؤخرا لشرفات قديمة بكل من شارع العربي بن مهيدي و شارع 19 جوان. هدى طابي