أو : الكاتب العراف و الرواية المعجزة يلاحظ دارس الأدب قدرة بعض النصوص على استشراف المستقبل ، و التنبؤ ببعض الرؤى قبل حدوثها بسنوات ، من ذلك مثلا أن الشاعر العربي التونسي ( أبو القاسم الشابي ) قد تنبأ بقيام الثورة و زوال الاستعمار الفرنسي عن تونس و كل البلدان المستعمرة - و هذا قبل سنوات من اشتعال تلك الثورات التحررية التي بشر بها هذا الشاعر العظيم في قصيدته العصماء الموسومة بعنوان ( إلى الطغاة ) و التي مطلعها : بقلم : أحسن ثليلاني إذا الشعب يوما أراد الحياه فلا بد أن يستجيب القدر و لا بد لليل أن ينجلي و لا بد للقيد أن ينكسر إلى أن يقول مخاطبا الطغاة مهددا و متوعدا و متنبئا أيضا : سيجرفك السيل سيل الدماء و يأكلك العاصف المشتعل إنها بالفعل نبوءة شاعر صادق الإحساس عميق التأمل ، و الحقيقة أن مثل هذه النصوص التأملية العميقة الرؤية الصحيحة الرؤيا كثيرة في الأدب العربي و العالمي ، و خاصة إذا كانت تلك النصوص من وحي أديب يمتلك قدرات قوية على التأمل و الحدس و الاستشراف ، و هي القدرات التي تساعده على الانطلاق من تصوير الكائن لرؤية الممكن و التبشير به .لقد اعتدنا في الدراسات النقدية عند الحديث عن هذه الظاهرة ظاهرة الرؤى الاستشرافية لدى الأدباء اعتدنا ربطها بالقدرات التأملية لدى هذا الأديب أو ذاك ، و لكن السؤال المطروح في هذا المقام هو هل يمكن أن ترتقي تلك القدرات التأملية إلى نوع من التنجيم ، بحيث يمكن للأديب أن يتنبأ ليس برؤى عامة و لكن بحوادث محددة بدقة متناهية ؟ من المؤكد أن هذا السؤال غريب حقا ، لأن الأديب قبل كل شيء فنان رهانه القبض على قيم الحق و الخير و الجمال ، و بالتالي فالتنجيم ليست صنعته في شيء ، و لكن ماذا لو تحقق للأديب هذا الارتقاء بقدراته التأملية إلى نوع من التنجيم ؟ إنه السؤال الذي حير النقاد و الدارسين و هم يواجهون رواية ( غرق التيطان ) لصاحبها الروائي الأمريكي ( مورغان روبارتسون ) ، و هي الرواية التي صورت غرق سفينة التيطانيك قبل أن تقع حوادثها بأربعة عشر سنة كاملة .يعد الكاتب الأمريكي مورغان روبارتسون (1861- 1915) ظاهرة فريدة من نوعها في عالم الإبداع الروائي ، فهو أشهر من كتب رواية يتنبأ فيها بوقوع حوادث معينة ، و ذلك قبل أن تقع بالفعل بأربع عشرة سنة كاملة ، و الأمر هنا يتعلق بروايته الشهيرة و الموسومة بعنوان(Futility ,or the Wreck of the titan )ترجمتها بالفرنسية(le naufrage du titan )أي ( غرق التيطان ) ، التي نشرها العام 1898 ، و تنبأ فيها بحوادث غرق سفينة ( التيطانيك ) الشهيرة و التي حدثت بالفعل سنة 1912. إن أمر هذا الروائي غريب جدا ، و هو من الغرابة بحيث إنه يتجاوز حدود نبوءته بوقوع الحوادث الكبرى التي قدمها في روايته ( غرق التيطان ) التي تروي حكاية غرق سفينة ركاب ضخمة في عرض مياه شمال الأطلسي ، و ذلك بعد أن اصطدمت فجأة بجبل جليدي عائم ، لكن الغرابة تكمن أكثر في تلك التفاصيل و الجزئيات التي صورها في روايته الخيالية ، و هي التفاصيل التي مازالت تحير النقاد و الدارسين إلى اليوم دون أن يجدوا تفسيرا مقنعا لحكاية هذه الحكاية ، أي حكاية هذا الكاتب الذي أوتي خيالا مبدعا خلاقا و رؤية مستقبلية تجاوزت كل حدود الإبداع و الاستشراف ، و هو الخيال الذي مكنه من تخمين حوادث قبل أن تقع بأربع عشرة سنة كاملة مع صحة توقعاته بخصوص التفاصيل الدقيقة ، من ذلك مثلا خصائص السفينة في الرواية ، حيث يبلغ طول التيطان 214 متر و لها ثلاث مروحيات ، و تزن حمولتها 45000 طن و يمكنها نقل 3000 راكب ، أما سرعتها فتصل إلى 25 عقدة ، و هي الخصائص نفسها تقريبا بالنسبة لسفينة التيطانيك ، حيث يبلغ طولها 269 متر و لها ثلاث مروحيات ، و تزن حمولتها 46000 طن بقدرة نقل 2200 مسافر ، و تتراوح سرعتها ما بين 22 إلى 24 عقدة .إن ما يدعو إلى الغرابة أكثر هو أن الكاتب مورغان روبارتسون قد تصور غرق سفينته التيطان في شهر أفريل بسبب اصطدامها المفاجئ بجبل جليدي عائم و هلاك حوالي ألف من ركابها بسبب قلة مراكب النجدة ، و هو ما حدث بالفعل لسفينة التيطانيك التي غرقت في شهر أفريل بسبب اصطدامها المفاجئ بجبل جليدي عائم ،و هلاك حوالي ألف من ركابها بسبب قلة مراكب النجدة.لقد احتار النقاد و الدارسون حيال هذه القواسم المشتركة ما بين التيطان و التيطانيك ، بل إن اسم السفينتين وحده بإمكانه أن يثير مزيدا من الاستغراب و الحيرة ، علما أنه لم يكن في واقع الحال الذي كتبت فيه الرواية لا سفينة تدعى تيطان و لا أخرى تسمى تيطانيك ، إنما التيطان سفينة من إبداع خيال مورغان روبارتسون عام 1898 ، و التيطانيك سفينة حقيقية تم بناؤها و وضعها في الخدمة بعد ظهور رواية ( غرق التيطان ) بعدة سنوات ، و هي السفينة التي غرقت كما هو معروف في 14 أفريل عام 1912.و في انتظار تقديم تفاسير مقنعة لهذه الظاهرة الأدبية و التنجيمية الغريبة ، يمكننا أن نشير إلى بعض الاحتمالات التي استأنس بها الدارسون ، و منها مثلا قضية تجارب الكاتب مورغان روبارتسون في مجال السفن و البحار ، فهو ابن قبطان سفن يدعى أندرو روبارتسون ، و كثيرا ما كان يرافق والده في رحلاته البحرية لأكثر من عشر سنوات ، و من المؤكد أن تلك التجارب قد أفادته بثقافة واسعة مكنته من اكتساب خيال وقاد و قريحة أدبية خصبة ، حتى أن هناك من يؤكد بأن مورغان روبارتسون هذا هو من اخترع منظار الأفق الذي يستخدم عادة في الغواصات و المتاريس .لقد انعكست ثقافته البحرية الواسعة على مستوى عوالم روايته ( غرق التيطان ) ، حيث جعلها تغرق في شهر أفريل بفعل الاصطدام المفاجئ بجبل جليدي عائم و ليس بفعل العواصف على عادة ما ألف الروائيون تصويره في ذلك الزمن ، وهذا شيء طبيعي فالجليد مادة قوية يذوب جزؤها العلوي في الربيع بينما يظل جزؤها السفلي غارقا في الماء ، حيث يعد شهر أفريل أحسن توقيت لذلك ، أما بخصوص ضخامة السفينة تيطان و خصائصها المختلفة التي جعلها الكاتب محور روايته ، فإن أمرها لا يعدو أن يكون تشخيصا موضوعيا و منطقيا لخصائص سفينة ضخمة ، صورها الكاتب جريا على عادة السباق نحو بناء السفن الضخمة في ذلك الزمن ، و لما كانت هناك سفن كبيرة تجوب البحار أصلا على غرار سفن ( لوسيانيك ) و ( توطونيك ) و ( ماجيستيك ) فإن كاتبنا الهمام قد اختلق لروايته هو الآخر سفينة ضخمة سماها ( التيطان titan) و التي تعني في اللغة العربية الجبار .و هكذا ربما تكون الأقدار قد لعبت دورها ، فكانت حكاية غرق التيطان التي صورتها الرواية هي تصوير قبلي عجيب لغرق سفينة التيطانيك .بقي أن نشير إلى أن الكاتب مورغان روبارتسون في رصيده عديد القصص و الروايات التي لم تترجم بعد إلى اللغة العربية ، و قد توفي هذا الأديب الظاهرة بسكتة قلبية في 24 مارس 1915 حيث وجد ميتا داخل غرفته بفندق أطلانتيك سيتي تاركا خلفه ألف سؤال و سؤال حول تجربته الإبداعية في رواية (غرق التيطان) و هي الرواية المعجزة التي تخفي خلفها أسرار كاتب عراف .طبعا سيسأل القارئ الكريم ما إذا كانت لهذا الأديب الظاهرة روايات أخرى يتنبأ فيها بحوادث مختلفة قبل أن تقع ؟ و الجواب نعم ، ففي سنة 1914 كتب صاحبنا هذا قصة تصور حربا مستقبلية بين أمريكا و اليابان ، و هي الحرب التي وقعت فعلا بعد سبعة و عشرين27 عاما من صدور تلك القصة التي صورت الكثير من تفاصيل تلك الحرب التي اندلعت سنة 1941 كما لو أن هذا الأديب كان مشاركا فيها و شاهدا عليها ، مع أنه في الحقيقة كان قد مات منذ ستة و عشرين26 عاما