جنون الهندسة المجتمع دائما بحاجة إلى مشاريع مثيرة، خاصة المجتمعات قيد النمو، أننا بحاجة إلى رموز معمارية، المعالم كرمز ضرري.. مدخل: لأشهر ومدينة سانتياجو دي كومبوستيلا الثقافية لمنطقة لاغاليسيا الاسبانية من أكثر المشاريع المعمارية إثارة للجدل بالمشهد المعماري العالمي، وبين النخبة الاسبانية بوجه الخصوص، بين مؤيد ومعارض، من جهتهم خلق التقنوقراطيون جبهة للشجب والتنديد لأجل إنجاز مشروع ثقافي لا جدوى منه، من غير عائدات تذكر في وقت حساس كهذا يعد ثغرة لهذر المال العام، إذ قدر الغلاف المالي الذي خصص لتنفيذه بحوالي 180 مليون يورو، سرعان ما قفز إلى الضعف متجاوزا 400 مليون يورو وقت الاستلام. جهات ارتأت انه على كل حال أفضل من هدره على المساعدات الاجتماعية استثمار لفائدة أجيال المستقبل. سرعان ما انتقلت النقاش إلى حلبة أخرى، بشأن الطراز المعماري ألتفكيكي لتصاميم المدينة، محموله الجمالي المنفصل عن خصوصية وهوية المنطقة، وانه ما كان للجنة تقييم العروض التساهل مع مقوم كذلك، في عمل صرحي مثل مدينة للثقافة كان من الضروري جدا لها التأكيد على "الهوية" وبخط سميك في دفتر شروط المسابقة، ناهيك عن إسنادها دراسة المشروع لمعماري أمريكي فيما اسبانيا تعج بأسماء كبيرة وكفاءات محلية شابة اثبت حضورها بالمشهد المعماري العالمي. تعليق بيتر آيزينمان على الضجة كان مقتضبا، أنها برمتها لا تخصه، مدينة سانتياجو دي كومبوستيلا الثقافية ثاني مشروع له في اسبانيا بعد مشروع جامعة غانديا، إما تغير الغلاف المالي للمشروع فيوضح أنه تلقى 2200 يورو عن المتر مربع وهو نصف ما يطلبه المعماري الاسباني هرتسوغ ومواطنه مورون دي مونيو، وسببه ارتفاع الغلاف المالي هو إدخال تعديلات، أو بالحق إضافات على برنامج المشروع؛ مضاعفة سعة استيعاب المكتبة تطلب مضاعفة مساحتها، لخلق حيز كاف لاحتضان قرابة مليون كتاب. "هذا إن كانت لديهم كتب! المسألة لا تخصني" يعلق آيزنمان قائلا، وأن أمر الجدال بخصوص مدينة الثقافة يتجاوزه، وانه ليس برجل سياسة كي يسعى لإقناع كل الأطراف هو مجرد معماري صراعه في مجال آخر: الإبداع. فجأة وجد عمله على النقيض في قلب عراك سياسي! معلنا إيمانه الراسخ أن الاستعراض هو الهدف الذي خلقت من اجله العمارة بالنسبة لمن هاجم أداءه المعماري على أنه بلا مرجعية فكرية أو خاصية فنية- جمالية تذكر، كتل معمارية مجردة، فضاءات باردة شديدة الغموض والتعقيد، واجهات غريبة.. يوضح انه رغم إدخاله بعض التلميحات من الهوية المحلية كمواد البناء والتجانس مع المحيط لم يسعى بالمرة لأجل ذلك، بصفته واحدا من أشهر المعماريين المنظرين لنسق العمارة التفكيكية، رائد اتجاه الإيجابية أو الإعتقادية- سعى إلى خلق عمارة جديدة تجسد قطيعة فعلية عما هو المتعارف عليه وسائد بالمشهد المعماري الاسباني تحديدا، نمط مخالف لكل المفاهيم الراسخة والمتعارف عليها بالطرز السائدة سواء كانت عمارة ما بعد الحداثة أو حتى عمارة تاريخية على تنوعها: إغريقية ، رومانية، بيزنطية، قوطية، كلاسيكية، باروكية، ركوكووية.. الخ.. الجوهر الأساسي لمنظومته التصميمية اعتمد على معالجة إشكاليات المشروع الغير منظورة، طرح المقابلات الثنائية لعناصره: المعنى/ الوظيفة، المعنى/الإنشاء، المعنى/الشكل.. الديناميكية/ الزمن.. الخ.. وكون لاغاليسيا منطقة فلاحيه فقيرة ومعزولة في شمال أسبانيا، لا تملك صناعة ولا ثقافة كاتالونيا أو إقليم الباسك، منطقة لا خصوصية محددة لها وتعوزها بنية ثقافية على غرار جيرانها، لذا سعى آيزنمان لجعلها ذلك الفضاء المحايد حيث يمكن أن تلتقي المناطق الثلاث، فضاء للتواصل، في قلب منطقة تنتهي عندها رحلة الحج المسيحية بزيارة كاتدرائية القديس يعقوب( سان جاك)، أحد الرسل الإثني عشر وشفيع الكنيسة الإسبانية، والذي يقال بأن رفاته محفوظة هناك، حسب ما جاء في مخطوط كاليستو الذي يعود إلى القرن الثاني عشر. (عام )1993 وضع طريق الحج إلى كومبوستيلا على قائمة التراث العالمي "اليونسكو". في المستقبل يمكن أن تصبح مدينة الثقافة هي الأخرى مزارا، محطة تتيح للمتلقي- الزائر-الحاج متعة التساؤل أمام العدد اللا نهائي من الصور المنتجة عن الفضاءات التى اشتغل عليها بدقة وعاطفة، محررا إحداثياتها من الأفكار المطلقة معدلا الأسس والمسلمات البديهية والجوهرية التى تربطها ببعض ثم ككل متكامل، رافضا للتجانس الزائف الملفق بين الوظيفة والشكل المدعوم بقاموس لغوى متوارث: نثر استعارات جديدة على جسد المدينة والموقع وفق صياغة قوانين جمال ومنفعة ورفاهية صادمة لما هو سائد، مع الاحتفاظ بالخطوط والحدود الداخلية بشكلها المألوف، ليس احتراما لمفاهيم بعينها، بل احتراما لقيود ومتطلبات دفتر الشروط الصارمة التى غالبا ما تعتبر عائقا حقيقيا في وجه فكرة المصمم، آيزنمان يعترف أنه أمام طبيعة البرنامج وخصوصية المنطقة كانت له فرصة البحث عن معني جديد للعمارة التى أخد العالم يكتشفها كفن جديد ومثير وتجربة طريقة حياة وليست مجرد علم بحت محصور في خلق فضاءات وواجهات، بل فكرة فلسفية معينة ورؤيا خاصة لإشكالية مستقبل علاقة الإنسان- المتلقي والمنتج المعماري - المبني، خاصة إذا كان ذو صبغة ثقافية، بدأ من إلغاء قوانين ومبادئ الهندسة الاقليدية المألوفة، وصولا إلى خلق آصرة معقدة وفي الآن ذاته بسيطة مكون من صياغات تكوينية جديدة تتماشي مع تطلعات الأجيال الناشئة وحاجتها إلى معرفة متجددة – وآنية- في بيئة ديناميكية- حركية من عالم تحكمه وسائل الإعلام، وتتحكم في تحديد أدق تفاصيل ملامحه، إلى درجة تجعلنا غير قادرين على بلوغ الحقيقة، السيل الجارف للمعلوماتية للتكنولوجيا الاتصال وأدواتها، الفضائيات والانثرنيث اللابثوب والسمارث فون، الجاذبية التى لا تقاوم اتجاه ابتكارات أو حتى مصطلحات العالم الرقمي، آيزنمان اعتمادا على آراء تشومسكي اللغوية آمن ان المتلقي قادر على إدراك معنى هذه العمارة إذ أنها مشتقّة من نفس البُنى اللغوية التركيبية المستخدمة في التعبير عن أفكارنا، وكون مدينة الثقافة منتج موجه أولا لسكان لاغاليسيا المتطلعين لاسبانيا مغايرة، الشغف الجماهيري المتزايد، حبه لكل ما جديد ورغبته في خوض غمار تجارب مختلفة منحته الجرأة على اختار منظومة معمارية خصبة تضمن إحداث الإبهار الإثارة والضجة، ابتكار صيغة ثرية ومغايرة لا شك ستساهم أكثر في الانفتاح على عوالم أخرى، لا يمكن لسكان منطقة لاغاليسيا تقبلها في فضاءات شيدت وفق طرز تاريخية، عوالم يسعهم تلمسها، تلمس الاختلاف والتنوع والحداثة في فضاء معماري شيد على أسس ومفاهيم جديدة (تفكيكية) ليس معنية فقط بالجانب الجمالي وإشكالية الهوية، وهي محددات نظرية مفروضة سلفاً. بل معني بكل مجالات الحياة: الدين والهوية والتاريخ والاقتصاد والسياسة والأدب القصصي والشعر، كلها مجنمعة ساهمت في إلى خلق تصميم ذو مرجعية متعددة لكنها في النهاية ذاتية، متأثراً في ذلك بالتحليل النفسي الذي أجراه على امتداد عقدين من الزمان، وجعله يتخذ موقفاً مناقضا لما هو سائد بشأن العقلانية والوضوح والنقاء في الشكل المعماري، وان المعنى الجوهري المراد له أن يدرك حدسياً لا عقلياً، لذا كان تصميمه متخما بالالتواءات والانحرافات والهشاشة والتنافر والتشظي وعدم التجانس بين جملة لا نهائية من العناصر المتعددة القراءة والتأويل؛ تشكل فضاءات مجردة تتيح لثقافات مختلفة أن تخلق جسوراً تتواصل من خلالها، أن تمد دروبا للوصول إلى نقاط بعينها، تجربة أشبه بالحج كممارسة تمنح رؤية متسامحة للدين تتسم بقبول الآخر المشاركة المفتوحة في ممارسة الطقوس الاحتفالية الدينية، نجد ضمن المخطط العام للمشروع هيكلا دينامكيا، طريق الزائر- الحج : يقصد مكانا مركزيا خارج دائرة الذات حيث يتحرك من مكان لمكان ويؤدي شعائر حركية؛ الحركة خروج من الذات لأجل الاتصال بالمقدس و الانفصال عن الدنيوي، ايزنمان جسد هذا بخلق أمكنة تتيح لأي زائر كان أن يشعر أنه خارج الزمن. الصعود على الطريق المنحدر يقوده إلى أن جزء من الساحة الخارجية إلى سقف المبني، انه في الواقع ليس منحدرا إنها الأرضية التى ترتفع بشكل طفيف ثم لا تفضي في النهاية إلى أي مدخل ولا إلى أي مكان، بعد بدله لجهد بلوغ ذروته يقف متأملا للجهود التى يبدلها في حياته بلا جدوى، هناك الطاقة المهدورة في التجوال (التسكع في الساحات والأسطح الموزعة بين وفوق الكتل المعمارية)، التى يمتصها المكان من رواده، يقصدونه لإعادة التوازن لأرواحهم منهكة من كثرة الهموم والمشاكل التي يتعرضون لها في حياتهم،. يعتريهم شعور عميق بالطمأنينة والهدوء كأنهم في مزار، وكما قال المفكر السويدي الكبير يان ميردال "أن المكان المقدس يظل مقدسا على مر العصور". حيث تصغر مشاكل الحياة في أعينهم أمام باقي الأشياء البسيطة التي تتألف منها ولم يكن لينتبهوا لوجودها، فيما هي معجزات بحد ذاتها، يسعون إلى عيشها، من دون البحث عن تفسيرٍ لها أو فك غموضها الذي هو سر وجودها، وانه باستطاعتهم كل يوم تغيّر حياته بشكل كلّي، كما يقول باولو كويلو:-" الحياة سفر والإنسان في قطارها يسير، يختار الطريق مكتشفا دواخل نفسه الإنسانية وأسرار روحها."هناك نماذج جاهزة من ثقافات أخرى يمكنه تقبلها، أن يتأملها، أن يغذيها بخبراته وماضيه ليبني مستقبلا جديدا، بحاجة إلى ملامسة البساطة التي تقوم في قلب الحياة، وليس أمامهم الزوار- الحجاج إلا إفراغ تلك الطاقة "الشحنات السلبية" المتراكمة بفعل الأحداث التي يمرون بها، عملية تفريغ تمكنهم من مواصلة حياتهم بشكل أفضل مع مغادرتهم للمكان، فعندما يجلس الزائر- الحاج في زاوية ما من مدينة الثقافة وبين يديه كتاب وحيدا أو مع صحبة يذرك أن ما كان يعتقد أنه ملكا له لوحده، لا قيمة له ما لم يتقاسمه مع سائر البشر. تماما كما في تجربة الحج.. آيزنمان أراد من مشروعه أن يكون تجربة تسرد، قصة تروى، لذا كانت الإستراتيجية الأولية هي التناص، وهناك قصة جاهزة عن رحلة حج إلى مزار القديس جاك دو كومبوستيلا تنطلق من جنوبفرنسا" سان جان بييه دو بور " على طريق محفوف بتجارب روحية كثيرة، يمر بها إنسان ليخرج منها بنتيجة اكتشاف معان جديدة للحب والورع الألم والموت، تجربة وصفها باولو كويلو في كتابه الجميل "حاج كومبوستيلا-1987" تتبع هدف معين إلى غاية إدراك ذروة النجاح، في الرواية الهدف المنشود هو السيف المفقود، سيف بشكل صليب أحمر اللون ذراعاه قصيران و تنتهي كلّ منهما بخنجر داخل زنبقة صورة القديس يعقوب (سان جاك)، منذ العصور الوسطى يتم تصويره ككاهن حاج مسافر و معه عصا كبيرة للمشي، قارورة مياه. (سان جاك) وهو شفيع إسبانيا، الحجاج، العمال، الكيميائيين، بائعي اللوازم الصغيرة، و الجنود، تطلب شفاعته للمصابين بالروماتيزم (التهاب المفاصل). يظهر سيفه المقدس بوضوح على أسقف كتل مدينة الثقافة وأرضيتها، التى هي امتداد لدروب الحج المقدس، مجسدة من خلال التلاعب بالخامات وارتفاع الكتل التى تبدو أنها قطعت عشوائيا بضربات من السيف المقدس، نفذها آيزينمان باستعمال منهج تخطيطي دقيق اعتماد على برامج حاسوب متطورة ودقيقة، رسم نظام شبكات هو تقريبا المخطط الطبوغرافي للموقع، قد اجتاح كل سطح من المدينة إلى منحني منه، شبكات تربط المحاور المختلفة التي على أساسها قلب لطبقة من الماضي. وبهذا التصميم ككل يضمن عدداً من النصوص الخاصة بتاريخ الموقع والمنطقة، وان الشكل النهائي للأبنية منبثق من تراكب وتجاور الطبقات العائدة إلى كل شبكة، وكل شبكة سخرت لتشكل عنصرا ما من المشروع: ساحة، ممر سقف، جدار منحدر، أرضية ما تلبث وتصبح عمودية حائط له نوافذ وفتحات، لا تعنى الهدم كما يدل ظاهرها، برنارد تشومي يوضح انه هناك فرق بين الهدم لأجل الهدم لإعادة البناء: الهدم الايجابي: التفكيك. مؤكدا على ضرورة تحرك العمارة بعيدا عن المدلولات السائدة التقليدية والامتداد إلى مفاهيم جديدة: التباين بين شكل المبنى والأرض المقام عليها، التباين التقليدي بين الهيكل الانشائى والزخارف، مجسدا ذلك بخلق نصوص مفتوحة/ صور متلاحقة، ديناميكية تهدم كل أسس الهندسية التقليدية الثابثة وتتخطاها وفق نظم بنائية وبصرية مركبة ومستقلة، تحولات تثرى معنى التصميم وتجعله قابلا للامتداد والاختزال، للتشتيت وإعادة التركيب، البعثرة وإعادة صياغة وتركيب عدد لا نهائي من المنظومات – الدوال المتداخلة المنفصلة والمرتبطة، الظاهرة والمخفية مع تركها مفتوحة في متناول يد المتلقي-الزائر، أشبه بمسودة نص له مهمة إكماله وليس قراءته فحسب، على عكس الطرز التاريخية المرتبطة بالهوية والخصوصية المحلية، مبانيها المغلقة التامة الانجاز. أشبه بالنص المقدس الذي لا يجوز المساس بحرمة فاصلة منه. هياكل ميتة منذ لحظة تسليمها.. بمعني آخر:- بدل أن ينتظر المنتج المعماري الحدث يكون هو الحدث ذاته، منتجا فنيا قابلا للعرض والتسويق، حاله حال الروايات الأفلام السينمائية الدراما التلفزيونية اللوحات الزيتية القطع المسرحية الأغاني، المشاريع ذات الصبغة الثقافية والتي ينظر إليها دوما أنها عالة على الحكومات، مراوغة معمارية صغيرة وهي ضمنت إيرادات معتبرة، تغطى ميزانية تسييرها وتمويل برامجها ونشاطاتها وتغذية قطاعات أخري، رؤية جديد لمفهوم صناعة الثقافية وهي أصبحت قطاعا منتجا، ومصدرا دائما للثروة. بالنظر إلى إيرادات المنتج الثقافي ناهيك عن النشاط التجاري والسياحي المصاحب، المقاهي والمطاعم والفنادق والمواصلات و.. الخ.. يعد آيزينمان أن مدينة سانتياجو دي كومبوستيلا الثقافية ستكون في المستقبل القريب قطبا ثقافيا وسياحيا بارزا، وجهة مهمة على الخريطة الجيوثقافية على غرار أوبرا سالنسكى-موسكو، متحف غوغنهايم- بلباو وصولا لمجمع جزيرة السعديات الثقافي- دبي. وأمثلة أخرى لانهائية، وأنه مشروع ناجح بدليل الضجة التى أثيرت من حوله والشهرة التى حاز عليها حتى قبل تدشينه، لأشهر وهو محط أنظار العالم، اهتمام رجال الصحافة والمختصين والدارسين والاهم الزوار الذين أشادوا بنوعية المكان، وأن له هيبة تجعل كل زائر له يشعر انه يلعب دورا حاسما في سيرة العالم، وهولا يدرى، معترفين أنه المشروع الصرحي الذي كانت اسبانيا بحاجة إليه لأجل الغد.