الروائي اِبن مخزونه من القراءة * النصوص الكُبرى نابعة من جبة التفلسف يرى الكاتب والأكاديمي الدكتور اليامين بن تومي، أنّ ما يُسمى نقداً أكاديميًا اليوم ما هو في الحقيقة إلاّ كلمة فضفاضة لا تستحق أن تُوصف بذلك. ويؤكد من جهةٍ أخرى أنّ النقد الحقيقي في الجزائر تصنعه الصحافة. وذهب إلى أكثر من هذا حين قال: «لقد أثبتَ الأكاديميون أنّهم لا يُتابعون الإبداع». حاورته/ نوّارة لحرش بن تومي وهو يتحدث عن الجانب الأكاديمي الّذي يُميزه ويبدو جليًا في بعض رواياته، وفي فحواها وأفكارها. ما يعني بشكلٍ ما أنّ الكاتب لا يخرج عن المناخ العام الّذي يتميز به عادةً. أوضحَ هنا أنّه يكتب ما يُسمى الرواية الأطروحة، وهي -كما يسميها- الرواية الأكاديمية التي تستعين بجوانب فكرية وفلسفية وعلمية، لأنّها تتعاضد مع المشروع الّذي يحاول -كما يقول- بناءه وتأسيسه. كما أضاف صاحب «أمراض الثقافة»، في ذات السياق: «كلّ رواية تحمل داخلها خطابا يُؤسس شرعية وجود ثقافة معينة كما هو حاصل مع الرواية العربية فهي تُؤسس لإشكالات الثقافة العربية، وإذا كانت كذلك خرجت من عباءة اللّغة لتهتم بتمظهرات الثقافة». للإشارة، الدكتور اليامين بن تومي، كاتب وأكاديمي، وأستاذ تحليل الخطاب والآداب العالمية، مهتم باللّغة والبحث العلمي، شارك في ملتقيات أكاديمية داخل الجزائر وخارجها، نشر بحوثًا في مجلات عربية عديدة، عضو محكم في مسابقات نقدية وشعرية مختلفة، عضو وحدات بحثية داخل جامعة سطيف، له مجموعة من الأعمال المطبوعة منها: «مرجعيات القراءة والتأويل عند نصر حامد أبو زيد»، منشورات الدار العربية للعلوم/لبنان، الاختلاف/الجزائر، ودار الأمان بالرباط، «إدوارد سعيد راهنًا»، منشورات ابن النديم/ بيروت، «البروكسيميا في السرد العربي» عن دار ابن النديم/ بيروت، كتاب مشترك مع الكاتبة سميرة بن حبيلس، «ممكنات النهضة في الجزائر، العوائق والبدائل الممكنة»، «السّرد الأُموميُّ»، «رواية الأزمة وإشكالياتها النظرية»، «مدرسة فرانكفورت»/كتاب جماعي، «فلسفة الدين»/ كتاب جماعي، «فلسفة اللّغة/ قراءة في الحدثيات والمنعطفات الكبرى»/ كتاب جماعي. كما صدرت له مجموعة من الأعمال الروائية من بينها: «الوجع الآتي»، «من قتل هذه الاِبتسامة»، «الزاويّة المنسيّة». تشتغل في حقل البحث الأكاديمي والفلسفة والدراسات والمقاربات النقدية، وفي ذات الوقت تكتب الرواية والقصة، برأيك كيف يُوفق الأكاديمي في الكتابة الإبداعية، وهل تخصصه العلمي الأكاديمي يُساعد على التحكم في تقنيات الكتابة الأدبية؟ صراحةً، لقد أنهكني الأكاديمي بصرامته، لذلك آخذ من الإبداع ما يجعلني أتنفس بعيداً عن خنقة النظريات والدراسات، والحقيقة لا أحس من نفسي فاصلاً بين الشعبتين بقدر ما أحاول أن أجعل كتابتي الإبداعية تخضع للتجريب الّذي أقرؤه لتكون أكثر عُمقًا ورزانة ولعل هذا ما جعلني أقف على أرض واحدة بواجهتين إبداعية وأكاديمية. أحاول تعرية الخطابات التحتية التي لا يراها إلاّ (باحث) بالمعنى الحقيقي رواياتك الصادرة حتّى الآن، كلها تقريبًا تنخرط وتشترك في التيمة نفسها، أي تشتغل على أزمة العشرية السوداء. فهل كان من السهل على الأكاديمي التسرب والتملص من لغته الأكاديمية ومصطلحات النقد، ومقاربة الأزمة روائيًا وفنيًا بإبداعية وأريحية؟ على الأقل من خلال النصوص الثلاثة التي كتبتها، فمن يقرأني لا يقول أبداً أنّني أكاديمي بل يجعلني أميلُ للإبداع، فلغة الإبداع تسيلُ من القلب ولغة النقد والدراسة الأكاديمية ينحتها العقل. وحتّى زملائي في الجامعة تفاجأوا من هذا السيل الإبداعي الّذي أصبح يتدفق على ورقي، وحين نلتقي في الجامعة في الندوات والملتقيات يقولون لي في أغلب الأحيان أنتَ رجل برأسين: رأس مبدع ورأس أكاديمي، وهذا ما يجعلني أُعاني على المستوى الشخصي كي لا أجعل أحدهما يغلب على الثاني وهو ليس بالأمر السهل. فقط أُضيف أني أتناول الأزمة ليس في عُمقها السياسي فقط، بل أخلاقيًا وفكريًا. فأنا أُسلِّط الضوء على قضايا هامشية بعيدة عن الأزمة، لكنّها المُتسبب الحقيقي في الأزمة، أنا أُسلط الضوء على الخطاب العام المُتسبب في أزمة الخطاب الديني الّذي يسود واقعنا، أنا لا أُعالج المسألة في سطحيتها التي تتعلق بحوادث مُباشرة، وإنّما أحاول أن أبحث عن بعض الجزئيات التي تُسبِّبُ شرخا في بنية الخطاب، وليس النقل المسف للواقع، هذه السِمة التي تُجسد عموم خطاب الأزمة لا تهمني ولا تغريني، فعديد الروايات التي تُميز هذه الأزمة تختلط أسلوبيًا بين أسلوب المباشرة وغير المباشر، فالسرد الّذي يغريني ليس هو السرد المباشر وإنّما السرد الّذي يُسلِّط الضوء على المعاني البعيدة التي تأتي من الأقاصي والأباعد لتقول أشياء لا يمكن أن يقولها السرد المباشر، أنا أحاول تعرية الخطابات التحتية التي لا يراها إلاّ باحث بالمعنى الحقيقي، لأنّ الرواية في تصوري بحثٌ دائم عن الحقيقة، وبحثٌ في الأُسس التي تُشكل الخطاب، لكنّه عالمٌ مُتخيَّل وافتراضي، فالرواية يمكنها أن تتسرب إلى مواقع يعجز عن كشفها السياسي، إنّها تحفر في داخل المناطق الغريبة واللامألوفة، وهي تعمل على تأثيث هذا العالم الطبيعي من الخراب الّذي يسكنه، إنّها تُطبب المناطق البيضاء التي لم تتكلم بعد. الرواية الجزائرية لم تخرج بعد من تيمة «المحنة»، فكثير من الكُتّاب ظلوا يتناولونها في أعمالهم، وأحيانًا نجد للكاتب نفسه أكثر من رواية تتناول الموضوعة ذاتها. السؤال الجوهري كيف يمكننا أن نتطهر من تجربة «المحنة»، وهل هذا الأمر سهل؟ لا أتصوّر ذلك، لأنّ المحنة كانت مُجهدة وتسببت في شروخ جوهرية في عُمق بنية الإنسان الجزائري، لذلك علينا بعملية تطهير واسعة تربويًا واجتماعيًا وأدبيًا واقتصاديًا لنخرج من عُمق الهاوية التي نحن داخلها، وهذا لا يتم إلاّ بكشف ألاعيب الأزمة في جوانبها المختلفة، والأدب كظاهرة فنية يُحاول أن يُعرِّي هذه المساحيق التي ما زالت تغطس رأس الأزمة في التراب، لأنّ منابت الأزمة ما تزال فاعلة فينا، لم نتخلص منها بعد، لم نتخلص من قلقها وتجربتها ككلّ. الرواية إن لم تكن مثقفة يكون مصيرها التآكل المُلاحظ أيضًا أنّ رواياتك تزخر بمحمولات فلسفية وبتأملات فكريّة، يعني الإطار العام لها يتراوح بين الفلسفي والفكري، هل للنزعة الأكاديمية دور في هذا؟ لا شك في ذلك، فالمرء مخبوء في عقله ولسانه، وما الورق إلاّ جسد نُمارس عليه تأملات العقل. فميولاتي كلها فلسفية وفكرية وتاريخية، وهل يمكن أن يكون الروائي غير اِبن مخزونه من القراءة. الرواية إن لم تكن مثقفة يكون مصيرها التآكل ولنا عبرة في النصوص الكُبرى فهي نابعة من جبة التفلسف أصلاً، مع أنّني أتصوّر أنّ العملية مقلوبة كذلك، فلا يمكن أن تتسم الدراسة الأدبية والأكاديمية بسمة المرونة إن لم تتخللها بعض التحويشات الإبداعية والأسطورية والقصصية وهذا ديدن النظريات في العِلم الحديث تأخذ من الإبداع لترسم لنفسها آفاقا أرحب. الاِنتفاع مطلب ضروري بين المسلكين الأكاديمي والإبداعي، وهل الإبداع إلاّ أرقى أنواع الفكر البشري وما الدراسة الأكاديمية إلاّ الإطار الّذي ينظم عقد الإبداع من أن ينفرط أو يأتي عليه الزمن. الجانب الأكاديمي الّذي يميزك يبدو جليًا في بعض رواياتك، في فحواها وأفكارها. ما يعني بشكلٍ ما أنّ الكاتب لا يخرج عن المناخ العام الّذي يتميز به عادةً؟ أنا أكتب ما يُسمى الرواية الأطروحة، وهي ما أُسميه الرواية الأكاديمية التي تستعين بجوانب فكرية وفلسفية وعلمية، لأنّها تتعاضد مع المشروع الّذي أُحاول بناءه أو على الأقل تأسيسه. في مناسبة سابقة قلت بأنك ستتجه في كتاباتك اللاحقة إلى منظور جديد في الكتابة الإبداعية، هل توضح كيف؟ وما هي خاصية هذا المنظور الجديد الّذي تتحدث عنه؟ الجديد سيكون من خلال الموضوع ومن خلال طُرق الحكي التي سأسلك فيها بعض المسالك الحداثية، كأن أستغل تقنيات السرد المعاصر مع ما نَظَّرَ له جيرار جنيت وإن كنتُ تحولت في المدة الأخيرة عن الكتابة من فوق، فالرواية بموضوعها هي ما تفرض نسق كتابتها. كيف يرتبُ المُتعدّد الّذي بداخلك، نفسه وحالاته الأدبيّة والفكريّة، وهل يجد متسعًا للاِشتغال على كلّ نوع دون أن يتأثر/ أو يؤثر، أي نوع على الآخر؟ وما الجزائري في نهاية المطاف إلاّ هذا المُتعدّد، لا أعرف أنني واحد أبداً، يقولون أنني أمازيغي وثقافتك عربية ودينك الإسلام، عن أية واحدية يتكلمون، نحن أكثر الشعوب تعدّديّة، لذلك أشعر أنني أقف على أرض لا تهدأ من الحركة والاِرتحال والتجوّال، أشعر أنني غير مستقر لا مفهومًا ولا كيانًا. وما نعيشه ونحياه لا يستقر كذلك، فكلّ شيء في الجزائر يميلُ للحركة، نحتاج فقط إلى توجيه الحركة في حالة النهضة لا أن نُسكِّن الحركة ونجعلها كائنًا خارج العادة. خارج المنطق. الحركة بداية الفِعل الإيجابي كما يُقال في عِلم النفس الوظيفي. النقد الحقيقي في الجزائر تصنعه الصحافة كيف يمكن برأيك إبعاد أو إخراج الوظيفة النقدية من الإطار العلمي الأكاديمي إلى الإطار الفني، أو الإطار النقدي الأدبي الإبداعي؟ إنّ ما يُسمى نقداً أكاديميًا اليوم ما هو في الحقيقة إلاّ كلمة فضفاضة لا تستحق أن تُوصف بذلك. النقد الحقيقي في الجزائر تصنعه الصحافة. لقد أثبتَ الأكاديميون أنّهم لا يُتابعون الإبداع. وحين يفهم هؤلاء أنّ النقد يبدأ من فهم ذواتهم المنقوصة من فِعل الحركة باِتجاه المُبدع سيخرجون عن برجهم العاجي. الرواية إذا خرجت من الطبيعة النصيَّة ودخلت في عرف الثقافة أصبحت خطاباً تقول في إحدى مقالاتك: «النظر النقدي المُعاصر أصبح ينظر للرواية على اِعتبار أنّها خطاب وليست نصا»، وهذا بسبب الاِنتقال من مفهوم النص الأدبي إلى مفهوم الخطاب الأدبي. كيف؟، وهل هناك روايات بعينها شكَّل فيها الخطاب حضوراً أكثر من النص؟ كلّ رواية إذا خرجت من الطبيعة النصيَّة ودخلت في عرف الثقافة أصبحت خطاباً، وكلّ رواية تحمل داخلها خطابا يُؤسس شرعية وجود ثقافة معينة كما هو حاصل مع الرواية العربية فهي تُؤسس لإشكالات الثقافة العربية خصوصًا مع روايات الطيب صالح والطاهر وطار، وإذا كانت كذلك خرجت من عباءة اللّغة لتهتم بتمظهرات الثقافة، فهي في مجال دراسات الخطاب.