الثورة الجزائرية شكّلت نموذجا احتذت به حركات التحرر أكد أستاذ التاريخ بجامعة زيان عاشور بالجلفة الدكتور هزرشي بن جلول، أمس، أن الثورة الجزائرية، شكلت بتضحيات أبنائها و اشعاعها التحرري و مشروعها المقاوم انموذجا احتذت به كل حركات التحرر في العالم ، مبرزا العبر والدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة الثورة ومشروعها التحرري وعوامل نجاحها ، لافتا من جهة أخرى إلى الملاحم التي تسطرها المقاومة الفلسطينية اليوم والتي تكتب بأحرف من ذهب سجل شعب مقاوم و ممانع و رافض للهيمنة الصهيونية و كل أشكال و صور الإلغاء التاريخي و النفي الحضاري و الإبادة البشرية. النصر : ماهي الدروس و العبر التي يمكن استخلاصها من تجربة الثورة الجزائرية و مشروعها التحرري ؟ هزرشي بن جلول : شكلت الثورة الجزائرية أنموذجا لحركات التحرر في إفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية و بفضلها أصبحت الجزائر بعد الاستقلال قبلة الثوار و ملجأ الأحرار . وقد تناولت الكثير من الأبحاث التاريخية و الدراسات الأكاديمية الثورة بالتحليل و التفسير و استخلصت جملة من الدروس كان من أبرزها أن سر نجاحها يكمن في توحيد قواها و جميع تياراتها ، و أن الاستعمار لا يخضع إلا من خلال المقاومة بكل أشكالها و صورها و في مقدمتها الثورة المسلحة. كما أن تحرير الشعوب و تخلصها من الهيمنة الكولونيالية لا يتم بين عشية و ضحاها بل هو فعل تراكمي يجمع بين النشاط العسكري و العمل السياسي و الدبلوماسي و النضال الثقافي وأن تكلفة و ضريبة التحرر باهظة و مكلفة . في السياق ذاته، يرتبط نجاح الثورة بإقحامها لمختلف الشرائح الاجتماعية في الصراع ضد الاحتلال ، و في تلاقي الظرف الذاتي بالموضوعي و في بعدها العربي المرتبط بوحدة المنظومة الحضارية و معركة المصير الواحد. النصر : وماهي أبرز عوامل نجاح الثورة الجزائرية في رأيكم ؟ 1. الوحدة ضمانة لنجاح الثورة تجمع أغلب الدراسات والأبحاث التاريخية التي تناولت المقاومات الشعبية خلال القرن التاسع عشر ، أن سبب فشلها في تحقيق أهدافها وتجسيد مشروعها يتمثل في تطور الجيش الفرنسي عددا و عدة و في غياب فكرة التنسيق والتضامن وفي ارتباطها بأسماء اشخاص و زعماء عائلات وفي الطابع الجهوي لتلك الثورات وفي افتقارها للشمولية . وعلى هذا الأساس كان الدرس الأول الذي تعلمه المناضلون في صفوف الحركة الوطنية الجزائرية بمختلف توجهاتها السياسية و مشاربها الثقافية أن نجاح الثورة مرتبط بوحدة قواها وقادتها، حيث تم تأسيس جبهة التحرير الوطني كإطار ثوري يشترط الانتماء له والنضال في صفوفه حل الأحزاب السياسية والمشاركة في تحقيق مشروعه بشكل فردي . 2.المقاومة العسكرية كآلية لرحيل الاستعمار بعد أكثر من قرن من السيطرة الاستعمارية ومعاناة الجزائريين من كل أشكال الابادة المادية والمعنوية وتجريب قادة الحركة الوطنية للعمل السياسي ، النضال الفكري الثقافي والنشاط الدبلوماسي تأكد قادة التيار الاستقلالي المتمثل في حزب الشعب/حركة الانتصار للحريات الديمقراطية خاصة بعد مجازر 8 ماي 1945 أن الاستعمار لا يرحل إلا من خلال المقاومة المسلحة ، لذلك قاد جيش التحرير الوطني ملحمة أسطورية واجه فيها الجيش الفرنسي المتفوق عددا وعدة والمؤيد من الحلف الأطلسي وحقق الاستقلال بعد تضحيات جسام وتكلفة فاتورة باهظة تمثلت في استشهاد أكثر من مليون ونصف مليون شهيد. ولعل تجاوز فرحات عباس لمفهوم الثورة بواسطة القانون و اقتناعه باستحالة تجسيد مشروعه المرتبط بالإدماج و التحاقه بالثورة الجزائرية عام 1956 ، أبرز حتمية تبني النشاط العسكري كوسيلة للتحرر من السيطرة الاستعمارية . 3.التنسيق والوحدة الزمنية والقيادة الجماعية يرتبط نجاح الثورة الجزائرية في تحقيق أهدافها كما تضمنته مواثيقها في : أ. الوحدة الزمنية من خلال تحديد الفاتح من نوفمبر كتاريخ لتفجير الثورة ، وهذا عكس ما حدث خلال القرن التاسع عشر عندما كانت الانتفاضات المحلية والثورات الشعبية تندلع في تواريخ مختلفة ومحطات زمنية متباعدة الأمر الذي سهل للمحتل القضاء عليها . ب. القيادة الجماعية التي ميزت الثورة الجزائرية من خلال الإصرار على عدم ربطها بفكرة الزعيم والبطل الذي يصنع الأحداث التاريخية ويوجهها . ت. لشمولية المتمثلة في التركيز على ضرورة أن تعم الثورة كافة المناطق وتتجاوز بالتالي الجهوية والمناطقية كما حدث في القرن التاسع عشر . النصر : وماذا عن الظروف التي تزامنت مع اندلاع الثورة ؟ هزرشي بن جلول: إذا كانت ثورات القرن التاسع عشر في الجزائر قد اندلعت في ظرف إقليمي ودولي غير مناسب ، عكسته خضوع أغلب الأقطار العربية للسيطرة الاستعمارية وعدم قدرة الدولة العثمانية باعتبارها تمثل الخلافة الاسلامية على تقديم الدعم العسكري والدبلوماسي بسبب ضعفها (الرجل المريض)، فإن اندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر قد تزامنت مع ظروف مساعدة يمكن إبرازها فيما يلي : أ. نتشار حركات التحرر في البلدان المستعمرة وشيوع فكرة تقرير المصير وحقوق الإنسان كما قررتها هيئة الأممالمتحدة. بالدعم العربي للثورة الجزائرية عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا واقتصاديا . ت. تراجع القوى الاستعمارية الكلاسيكية وانهزام فرنسا في معركة ديان بيان فو في الفيتنام. ث. دور الحركة الافروآسيوية وجميع الدول المناهضة للاستعمار في دعم الثورة الجزائرية. 4.التشبث بالهوية والأصالة التاريخية يظهر ذلك من خلال الارتباط بعناصر الشخصية الوطنية ومقومات هويتنا الحضارية (اللغة ، الدين) وعلى هذا الأساس لعب العامل الديني دورا محوريا في الثورة التحريرية، سواء من خلال التأكيد على ضرورة قيام دولة جزائرية في إطار المبادئ الاسلامية ، أو من خلال استخدام مصطلحات من قبيل الجهاد والمجاهدين وخالد وعقبة ككلمة سر واختيار يوم الاثنين كتاريخ لتفجير الثورة تيمنا بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام والاحتفال بالسنة الهجرية كتاريخ لأحداث 20 أوت 1955. 5.استقلالية الثورة الجزائرية رغم النشاط الوحدوي والتوجه القومي الذي ميز الواقع العربي خلال فترتي الخمسينيات والستينيات ، إلا أن وجود أنظمة ملكية مرتبطة بالسياسة الاستعمارية وأنظمة ثورية مناهضة للمشاريع الغربية في المنطقة قد ساهم في بعض الأحيان في توتر العلاقات العربية- العربية، فهل تماهى قادة الثورة الجزائرية مع هذا الطرف ضد الآخر ؟. الواقع أن الثورة لم تغرق في الصراعات البينية داخل النظام العربي والمحيط الاقليمي والدولي ، بل كانت حريصة على إقامة العلاقات بين كافة الدول العربية والإسلامية والصديقة فاشتركت في دعمها حكومات متعارضة في أمور كثير ونجحت في تجاوز العديد من الصراعات الدائرة بين الأنظمة العربية . وفي هذا السياق يمكن الاشارة إلى استفادة الثورة الجزائرية من الدعم التونسي والمصري والدعم الذي قدمته الأنظمة الملكية للثورة الجزائرية في الأردن والعراق والسعودية . النصر : اعتمدت الثورة التحريرية على كل الاتجاهات السياسية والشرائح الاجتماعية، كيف كان ذلك؟ هزرشي بن جلول: إذا كانت الثورات الشعبية والانتفاضات المحلية في الجزائر خلال القرن التاسع عشر قد اعتمدت بالدرجة الأولى على الفلاحين الذين عانوا من سياسة الاستيطان والمصادرة ونزع ملكية الأرض وإذا كان التوجه الاستقلالي قد اعتمد منذ تأسيس نجم شمال إفريقيا على العمال ، فإن الثورة قد اعتمدت على كل الاتجاهات السياسية والشرائح الاجتماعية. ويمكن الاشارة إلى ذلك من خلال الامثلة التالية : -تأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين بتاريخ 24 فيفري 1956 لإقحام العمال في الثورة. -تأسيس الاتحاد العام للتجار الجزائريين في 20 سبتمبر عام 1956 لإقحام فئة التجار في الثورة. - تأسيس الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في شهر جويلية 1955 لتنظيم الطلبة والاستفادة من دورهم في الثورة. إن إقحام مختلف الشرائح الاجتماعية من مثقفين وسياسيين و نقابيين وتجار وطلبة وعمال في الثورة قد ساهم في توسيع قاعدتها الشعبية وانتشارها الجغرافي. وهنا يمكن الاشارة إلى الدور المميز الذي لعبه الطلبة من خلال إضراب 19 ماي 1956 والدور الذي لعبه التجار من خلال إضراب الثمانية أيام خلال الفترة الممتدة بين 28 جانفي/4 فيفري 1957 والدور الذي لعبته تلك الشرائح في إضراب 11 ديسمبر 1960 وإضراب 17 أكتوبر 1961 بباريس. النصر : ماذا يمكن القول حول الملاحم التي تسطرها المقاومة الفلسطينية اليوم؟ هزرشي بن جلول: تسطر المقاومة الفلسطينية منذ تاريخ السابع من أكتوبر 2023 أروع الملاحم و تكتب بأحرف من ذهب سجل شعب مقاوم و ممانع و رافض للهيمنة الصهيونية و كل أشكال و صور الإلغاء التاريخي و النفي الحضاري و الإبادة البشرية . و هو نفس المشهد الذي كان في الجزائر خلال الحقبة الكولونيالية ، فقد وصف المجاهدون الجزائريون بقطاع الطرق و الخارجون عن القانون و الفلاقة بقصد تشويههم و ضرب معنوياتهم و كسر إرادتهم كآلية لإفشال الثورة و دفع الجزائريين نحو القابلية للاستعمار و هو نفس ما تقوم به آلة الدعاية الصهيونية والغربية التي تصف حركات المقاومة الفلسطينية بالإرهاب لشيطنتها و تشويهها و بالتالي تبرير ارتكاب المجازر والتطهير العرقي و التهجير الجماعي . و على أساس ذلك يمكن القول أن ما يحدث في فلسطين و غزة ليس إرهابا بل حركة مقاومة و تحرير يجب دعمها بكل الوسائل . و قد شكلت الثورة الجزائرية بتضحيات ابنائها و اشعاعها التحرري و مشروعها المقاوم انموذجا احتذت به كل حركات التحرر في العالم . و يعود ذلك لطابعها الإنساني ومناصرتها لمختلف القضايا العادلة و مواجهتها لكل أشكال الهيمنة الكولونيالية. و سيتكرر نفس السيناريو في فلسطين في القريب العاجل على أساس أن التاريخ هو دراسة الماضي لفهم الحاضر واستشراف المستقبل .