ألقى أيقونة السينما الفرنسية جيرار دي بارديو بجواز سفره في وجه حكام بلاده متخفّفا من انتماء ثقيل إلى بلد كثيرا ما رفع شعار العدالة والأخوة والمساواة، و لم تكن ممارسات صناع القرار فيه كذلك، بل أنها كثيرا ما طبقت عكست ما رفعت. الفنان الكبير استهجن استعارة رئيس الحكومة مصطلح الحقارة لوصف قرار انتقاله للعيش في بلجيكا هربا من سطوة الضرائب، و رد عليه برسالة تاريخية سيذكرها الفرنسيون طويلا، قال فيها ما ملخصه: من أنت لتقول لي ما قلت لي، قبل أن يؤكد بأنه لم يقتل أحدا، ولم يقصر، وظل لمدة خمس وأربعين سنة يدفع الضرائب، وفوق ذلك يوظف عشرات الناس. "سأرحل لأنكم تعتبرون، النجاح والإبداع والتفوق والاختلاف عموما، سلوكات تستوجب العقاب". دي بارديو ذهب في تبرير قراره بالتخلي عن الجنسية الفرنسية إلى حد التأكيد بأن البلد الذي أحبه ليس هو نفس البلد الذي يطرد نخبه:" سأعيد لكم جواز سفري وبطاقة التأمين التي لم استخدمها أبدا، لم يعد لنا نفس الوطن، إنني أوروبي حقيقي، إنني مواطن عالمي، كما رسخ لي ذلك أبي ". ثمة بلاغة في التخلي عن الأوطان يثريها بطل سيرانو دو برجراك، وثمة درس يقدمه لمحبي فرنسا إلى حدّ التهافت مؤداه أن فرنسا بلد قابل للترك، أيضا، وأن بالإمكان هجرها ليس للإقامة في أمريكا بل للإقامة في بلجيكا التي طالما ألهمت الفرنسيين في إطلاق النكت. يعلمنا بطل فيلم "الرجل ذو القناع الحديدي" أن "العالم واسع خلف جدران باريس" كما قال بذلك قديما كاتب من الجنوب اسمه محمد ديب رفضته المنظومة الفرنسية رغم أنه كان من خيرة من يكتبون باللغة الفرنسية في زمنه. وربما كان في ذلك تنبيه لغافلين يصعب تنبيههم، تحولت فرنسا، بالنسبة لهم، إلى مرض وهم ليس بالضرورة، من العاطلين الذين يبحثون عن حياة كريمة خلف البحر ( وذلك من حقهم على أية حال) ولكن من النخب السياسية والإعلامية والثقافية التي تضع المرجعيات الفرنسية في خانة المقدس. فرنسا القابلة للترك، فرنسا المفلسة الآن لازالت تؤثر على مستعمراتها القديمة تأثيرا مأساويا، وتكفي مراجعة التراشق الاعلامي بين الصحافة المغربية والجزائرية حول من تحبه فرنسا أكثر، لنفهم أن فرنسا لازالت تحتل مساحة شاسعة من الأرواح في الجنوب العاجز عن تدبير شأنه. فرنسا لا تحب الجزائر ولا تحب المغرب، ولكنها تحب الثروات الجزائرية ويحب دبلوماسيوها قصور المغرب وليالي الأنس في المغرب. ملاحظة حين نتدرب على حب أنفسنا سنشفى من حب فرنسا. سليم بوفنداسة