كان يسعى جاهدا لإنقاذ الفن الجزائري من التغريب و الرداءة نغم بوليفة، ابنة الفنان والموسيقار الراحل محمد بوليفة، في حوار عن والدها الفنان الراحل، تكشف فيه بعض التفاصيل والجوانب من يومياته وحياته الفنية. كما تتحدث عن بعض أعماله الأخيرة التي أنجزها قبل الرحيل بالرغم من معاناة المرض والألم، نغم التي تعمل كصحفية في مؤسسة التلفزيون الجزائري، أنجزت "بورتريه" عن حياته، وشاء القدر أن يشاهده في اللحظات الأخيرة وهو في سكرات الموت، كما أنجزت شريطا وثائقيا عنه وقدمته بمناسبة أربعينيته، سلطت فيه الضوء على بعض تفاصيل مسيرته الفنية والحياتية من خلال شهادات بعض الأصدقاء والفنانين. في هذا الحوار تتحدث نغم عن كل هذا وعن أشياء أخرى ذات صلة بحياة الموسيقار وفنه وذكراه. حاورتها/ نوّارة لحرش كيف تستحضرين الوالد الفنان بوليفة وماذا في جعبتك وذاكرتك وذكرياتك؟ أنا لا أستحضره، فهو حاضر معي في كل اللحظات، أتقاسم معه يومياتي في مخيلتي، أحاوره في أعماقي، دائما أتفقد أشياءه كل يوم، حتى إنني قبل أن أباشر في أي عمل أتساءل إن كان سيعجبه أم لا وأتوصل في الأخير على جواب لأنني أدرك جيدا ماذا يحب وماذا ينبذ بحكم العلاقة القوية التي تربط بيننا. في جعبتي الكثير من هذا الرجل العظيم نتيجة الجلسات المتكررة التي جمعت بيننا، كنا نتناقش في أمور كثيرة عن الفن والأدب، عن التاريخ والجغرافيا وفي قضايا الأمة وغيرها. حتى أننا كنا نجعل من المواضيع التي نتناولها قضية ونضع لها نقيضا حتى نتوصل في الأخير إلى مركب القضية وبالتالي لا تنتهي الجلسة إلا وفي جعبتي الكثير. أخذت أيضا من بوليفة الأب الذي كان يتفنن حتى في أبوته كما أقول دوما، حب الآخر وكيف نكون له السند، اكتسبت منه التواضع، تعلمت منه الصمود، فالحياة -يوم لك ويوم عليك-، تعلمت منه حب الوطن من خلال أعماله الوطنية الخالدة. كثيرة هي الذكريات الجميلة مع والدي، كنت دائما تلك الإبنة الرفيقة لوالدها في تحضير كل عمل أوبيرالي، مسرحي، استعراضي، ملحمي أو غنائي يقوم به، كنت أعجب كثيرا بطريقته في استخراج الأصوات من حناجرها وأسلوبه التلحيني المتميز، ربما كان قاسيا في عمله مع الفنانين وذلك لمصلحة العمل إلا أنه يحمل لهم كل المحبة وكانوا يقدرون له هذا، وبالمناسبة أعتبرهم أسرتي الثانية فأنا كبرت معهم وكثيرة هي الذكريات الجميلة التي جمعتني بهم. الفنان بوليفة قبل وفاته شاهد "بورتريه" عن حياته، بثّ في برنامج ''صباح الخير''، وكان من إعدادك، كيف استقبل هذا العمل ، خاصة وهو من توقيعك؟، وهل علق عليه؟، وماذا قال؟ نعم، باعتباري صحفية بالتلفزيون الجزائري وواحدة من الذين يدركون جيدا بأن محمد بوليفة شكل مرحلة فارقة في التاريخ الفني الجزائري بمواكبته للفن العالمي بأسسه ومناهجه وتجسيده في أعماله الأوبيرالية والملحمية والمسرحية والاستعراضية، إضافة إلى أعماله الوطنية الخالدة ما حفزني كصحفية بتجسيد مسيرته الفنية الخالدة في –بورتريه- وللأسف الشديد عندما كان يشاهده كان في سكرات الموت عندها، وبالتالي لم يستطع أن يعبر لي بالكلام، لكن خاطبني بتعبيرات عينيه وتقاسيم وجهه ونظراته المليئة بالحب التي لا تفارقني أبدا. كيف استقبلتم حفل تكريمه الذي تم على هامش احتفالات عيد ثورة الجزائر؟ الموسيقار محمد بوليفة هو شخصية وطنية وبالتالي استقبلنا كل التكريمات التي جاءت في خمسينية الاستقلال بصدر رحب، وبالمناسبة شكر خاص لمحافظة المهرجان المحلي للموسيقى والأغنية السوفية على تخصيصها جناح خاص له في إطار فعاليات المهرجان. بالمناسبة كيف كان يرى التكريمات في الجزائر؟، هل كان يتحدث عنها وعن كيف تتم؟ كان يسعد جدا للتكريمات المخصصة لعمالقة الفن بالجزائر حتى إنه في التكريم الأخير لعبد الله المناعي الذي كان من طرف الديوان الوطني للثقافة والإعلام صعد إلى الركح متأبطا عوده مداعبا أوتاره مفاجئًا المناعي الذي كان عندها يغني أغنيته الشهيرة "يا بنية العرجون" والذي سعد كثيرا لهذه المفاجأة لأنه كان يعرف جيدا بأنه نادرا ما يصعد بوليفة إلى الركح، فشكره المناعي بطريقته الغنائية المتميزة بكلمات جميلة، أتذكر ذلك اليوم جيدا لأنني قمت بالتغطية الإعلامية واهتزت وقتها كل القاعة بالتصفيقات والزغاريد لصعود والدي إلى الركح. كيف كانت يومياته معكم في البيت؟ والدي في الحقيقة كانت له طقوسه الخاصة، فبعد انتهائه من عمله الإداري كمدير للمعهد الجهوي للتكوين الموسيقي يعود إلى البيت، يختلي قليلا مع نفسه ليشاهد بعدها الأخبار ثم يتجه إلى فنه، إما يكتب شعرا أو يلحن قصيدة أو يعكف على عمل أوبيرالي ضخم وعندما ينتهي من كل هذا نتجه نحن الأبناء إليه وكل واحد منا يتناقش معه في مجاله، أنا باعتباري صحفية أتناقش معه في كل المجالات، أما إخوتي فهم طلبة بالثانوي لذلك أغلب نقاشاته معهم حول الدراسة وضرورة الارتقاء بالمستوى العلمي، فالدراسة عنده شيء مقدس وطبعا كل وقته المتبقي يخصصه للوالدة الفاضلة بنقاشات ممتعة ومتنوعة في مختلف المجالات بمحبة كبيرة واحترام متبادل. أكثر الأوقات التي كان يجلس فيها ليلحن أو ليشتغل على أعماله؟ لم تكن له أوقات معينة للتلحين، كان كلما يحضره اللحن يجسد النوتة مباشرة على أوتار عوده ليبدع لنا أرقى وأجمل الألحان. أكثر أغنية كان يرددها ويدندنها أمامكم؟ كان كل مرة يدندن أغنية على حسب الحالة والموقف. هل كان يتحدث عن حال ومستوى الأغنية الجزائرية في جلساتكم العائلية؟، وماذا كان يقول؟ أصلا، لم يكن له وقت للحديث عن مستوى الأغنية الجزائرية، بل كان يسعى جاهدا لإنقاذ الفن الجزائري من موجة التغريب ومن المستوى الرديء الذي آل إليه، سواء عن طريق الأغنية الوطنية أو من خلال أعماله الكبرى ك "ملحمة الجزائر" و"أوبيرات علي معاشي"، "قال الشهيد"، "حيزية أم الجمال"، "رحلة حب"، "نوبة في الأندلس" وغيرها من الأعمال الكبرى. كما كان يسعى جاهدا من خلال أعماله إلى إدخال كل الطبوع الغنائية الجزائرية كالاستعراض الغنائي الشهير "إلا هنا اللي نعيش" وكان من كلماته وألحانه والذي أصبح مطلوبا دوليا وحاز على عدة جوائز وكل هذا من أجل ترسيخه للهوية الفنية الجزائرية. في السنوات الأخيرة أصبح يهتم أكثر بتلحين الأوبرات، لماذا اتجه وبكثافة إلى هذا الفن؟ إتجه إلى الأوبرات لأنه كان يرى من الضروري أن يواكب الفن الجزائري الفن العالمي بمختلف مقاييسه وأسسه ومناهجه وبحكم دراساته العليا للموسيقى في بغداد أين سُميت قاعة على اسمه لتفوقه الشديد عن باقي الطلبة العرب هناك، تمكن من الاطلاع على الموسيقى العربية والعالمية جيدا، زيادة إلى موهبته المتفردة، كل هذا مكنه من تحقيق هذا الهدف بجدارة ليصبح سفيرنا في أكبر المحافل الدولية وقد كان يلقب بملك الأوبرات. لحن لوردة أغنية "بلادي أحبك" وكانت واحدة من بين أهم انجازاته الفنية، هل تذكرين أوقات اشتغاله على هذه الأغنية وكيف تمت وكيف عاش لحظاتها وتفاصيلها؟ لا أتذكر تلك الفترة بحكم صغر سني آنذاك، لكن أعرف جيدا بأنه تمكن من تلحين هذا العمل في وقت وجيز جدا لضيق الوقت حتى أنه اضطر للذهاب إلى مصر لتدريب وردة على اللحن، سبق وأن أخبرني بأنه قال لوردة بمجرد أن تتلفظي بمطلع الأغنية -بلادي أحبك- ستهتز القاعة، وفعلا حصل ذلك وعند انتهاء وردة من الحفل قالت له بفرحة شديدة: "فعلا يا بوليفة صدقت"، فأصبح هذا العمل الوطني مخلدا لكلاهما. كيف استقبل مرضه، وكيف كانت أيامه الأخيرة؟ الكثير لا يعرف بأن الموسيقار محمد بوليفة ختم القرآن الكريم ثلاث مرات وقد تطرقتُ لهذا في الشريط الوثائقي الذي قدمته بمناسبة أربعينيته والذي لاقى هو الآخر صدى واسعا عند الإعلاميين والكُتاب، وبالتالي كان رجلا متدينا وكان يدرك جيدا بأنها مشيئة الله، حتى إنه كان عندما يراني قلقة عن حالته الصحية كان يمازحنى قائلا: "اتركيني أمرض قليلا يا نغم" ويضحك. هل هناك أعمال معينة بدأها ولم يكملها ومع من وما هي؟ والدي كان ذاك الذي يكتب عن الجزائر بنبضات قلبه ويلحنها بأنفاسه الطاهرة فشاء القدر أن ينتهي من عدة أعمال وطنية قبل وفاته بالرغم من مرضه الشديد، منها عملين للجيش الوطني الشعبي، الأول بعنوان "يا جيشنا" كلمات سليمان جوادي والثاني "جو بر بحر" كلمات الشاعر بلقاسم زيطوط، قام بأداء هذين العملين مجموعة كبيرة من كبار الفنانين والآن تم تصويرهما بفضل المجهودات الكبيرة للجيش الوطني الشعبي. أما بخصوص العملين المتبقيين فهما من الوطنيات أيضا، الأولى من كلماته وألحانه "ما زالها عاليا وتعلى" أداء زكية محمد والثانية "جسدي والوطن" كلمات سليمان جوادي وأداء زكية محمد أيضا، وكل هذه الأعمال صورت بحرص شديد من مدير الإنتاج للتلفزة الجزائرية إلياس بلعريبي الذي أشكره بالمناسبة، لتبث طيلة خمسينية الاستقلال عله يملأ الفراغ الرهيب الذي تركته هذه الشخصية الوطنية. أكثر أغنية تحبينها بصوت الفنان بوليفة بصراحة كبيرة نوّارة، أنا أعشق كل أعمال هذا الموسيقار لأن كل أعماله تحمل قضية، سواء غنائية كانت أم أوبيرالية وطنية أو عاطفية، فعندما تستمعين لأغنيته السياسية مثل "ليتني كنت بائع خبز بالجزائر" للشاعر الكبير محمود درويش مستحيل أن لا تعجبي بها وعندما تشاهدين "ملحمة الجزائر" كنموذج من أعماله الملحمية من المحال أن لا تتوقفي لمتابعتها ونفس الشيء بالنسبة لبقية أعماله فهو صاحب قضية. أجمل ذكرى وأسوأ ذكرى في حياة الوالد؟ في الحقيقة قليلا ما يعبر والدي عما يختلج فؤاده من مشاعر سواء كانت طيبة أو سيئة لذلك ليس بإمكاني أن أجيبك عن هذا السؤال. تقديرا لفنه، أطلقوا اسمه على إحدى القاعات في العراق وهو على قيد الحياة، فهل تتوقعين أنه سيأتي اليوم الذي يطلق فيه اسمه على قاعة من القاعات في الجزائر؟ نعم، أتوقع ذلك. كيف كان العرض الذي تلقاه من المملكة العربية السعودية، والذي على خلفيته جاءت "إلا هنا اللي نعيش"؟ العرض كان انبهارا بقدراته الفنية الاستثنائية. وبالمناسبة هي ليست أغنية، هي استعراض غنائي من كلماته وألحانه تحت عنوان "إلا هنا اللي نعيش" ولجأ إلى كل الطبوع الغنائية الجزائرية في تلحينها وقام بهذا الاستعراض في العشرية السوداء.