محمد علاوة حاجي يحوّل الحياة إلى احتمالات يلهو محمد علاوة حاجي بالزمن وبالحياة التي يحوّلها إلى مجرد احتمالات يجود بها هذيان سكيزوفيريني في سرد رفيع، وكذلك يفعل مع فن الرواية الجليل الذي سنعرف قبل أن نطوي» في رواية أخرى» أنه متمكّن منه حقا وصدقا، مهما كان ترتيب هذه الرواية في منجزه الأدبي الظاهر والمستتر. سليم بوفنداسة يخبرنا الراوي في بداية الأمر كلّه أنه نصف مدّد على سطح عمارة آيلة للسقوط، يرتشف قهوته ويلتهم ما تبقى من سيجارة يتصوّر كيف وصل هذا الشيء إليه لكنه يسارع فيؤكد أنه يتصوّر أكثر من احتمال لذلك، ليفتح بعد ذلك صنبور الاحتمالات، محوّلا كل ما يصادفه في طريق السرد إلى احتمال. و أول الاحتمالات هو أن البطل المعنيّ بما يُروى وجد في ظهيرة يوم قائظ أنه يمتلك ورقة نقدية رخيصة كاملة كان من المفروض أنه يمتلك نصفها فقط في هذا الوقت من الشهر، غير أن عدم امتلاك سائق الطاكسي الذي أقله للفكة، مكّنه من النصف الباقي على أساس أنه سيدفع في «المرة القادمة» إن كانت هناك مرة قادمة. وسيلقي باحتمالات كثيرة لمصير هذه الورقة النقدية، ومنها أنه اشترى بها «شيئا» لحبيبته سمونة التي سترفض هديته وتتركه يحتسي القهوتين في الكافيتيريا. بعد أن وفر الورقة بتقاعسه عن الدفع لزميله في الخدمة العسكرية موحوش الذي اكتشفه فجأة في المقهى، قبل أن يضيع منه في الزحام ويكتشفه ثانية في الحانة في هيئة كاتب غاضب من إعراض الناس عن كتبه، وربما كان موحوش شقيق الراويّة الذي غادر البيت باكرا ويكتشفه الآن، لكنه سينكر أخوته تماما كما سوف ينكر هو الاخوة ذاتها حين يعلنها موحوش. وبكل تأكيد فإننا لن نعرف ما الذي اشتراه للحبيبة، هل يتعلّق الأمر بتحفة قديمة أو بكتاب، وهل اشترى حقا هذا الشيء أم أنه لم يفعل لأن موحوش لم يدفع أصلا ثمن القهوة. وسط غابة الاحتمالات هذه يمضي بنا علاوة حاجي محدقا في الحكاية بأكثر من عين ومن أكثر من زاوية، في مسرح ضيق يضيع فيه شخوص الرواية في دوامة الاحتمالات و تتماهي الشخصية مع أختها وحتى مع الأشياء كحال مبروكة التي قد تكون معلمة تعذب تلاميذها بحمل ابنتها الثخينة أو قد تكون الخالة التي هي الشخص الوحيد الذي يشتاق إليه على مدار التاريخ والجغرافيا أو عصا الجد النائم في رعاية الصراصير. أو كموحوش الذي يطلع من كل زاوية، فهو الشقيق، وهو زميل الدراسة الذي لا يتقن سوى اللغة العربية والذي نسب له الراوي قصيدة حب هو كاتبها ليس على دين سيرانو دوبرجراك ولكن طلبا للنجاة من الأستاذ، وقد يكون موحوش مندسا يفسد عقود الشراكة مع الأجانب في الشركة التي يعمل بها راويتنا المبجل الذي استقال من التعليم بعد وقت وجيز لأنه اكتشف أن الأطفال لا ينالون شيئا من العلم في تلك القرية التي رماها في الخلاء البعيد. وربما كان مخرجا سينمائيا معروف يتحفنا الراوي بثلاثة سيناريوهات للقصة ذاتها التي سيحولها موحوش إلى فيلم. أما سمونة فستظل حبيبة سواء أكانت تلك الحبيبة التي رفضت هدية عيد ميلادها في الكافيتيريا، أو تلك التلميذة ذات الظفائر، أو التلميذة السمينة ذات النظارتين أو ابنة الخالة، أو تلك التي ستصير زوجة لموحوش وفي جميع الحالات فإنه لن يتزوجها لأن شيئا ما حدث في الرواية، جعله كما في كل الروايات يهاجر ليبني نفسه طابقا طبقا، حتى وإن اعترف في النهاية بأن ورشة البناء لا تزال مفتوحة. ويؤكد في أكثر من مرة أنه لا يريد رؤيتها وقد أصبحت بدينة تجر خلفها دزينة من الأطفال. يأخذنا الراوي إلى الماضي والمستقبل ويلمّح أحيانا أنه يعالج نفسه بسرد حكايته على هذا النحو، فيصير مثلا كهلا غريب الأطوار على مشارف السادسة والخمسين يعاني حالة فصام، ببريق في أعلى الرأس وعين زجاجية وكرش مترهلة تتدلى كعضو إضافي غريب لكائن سيامي. أي في هيئة مدير شركة يحاول الاجتهاد اعتمادا على المرآة للتأكد من أن صورة بطاقته المهنية مطابقة لصورته، لئلا يجد نفسه منتحلا شخصية غيره. لكنه يفشل في استعادة قصته إذ يداهمه احتمالان: الأول أنه الساعي الذي يدخل مكتب ذاك الذي يستلقي تحت صورة «المدير الأول لشركة الوطن»، واضعا رجليه على المكتب مستظهرا حذاءه الفاخر، والذي راودته رغبة شاذة في التعبير عن إعجابه بالحذاء الشهي بل والانكباب عليه لمسحه حتى يصير أكثر لمعانا، بيد أن شيئا ما حدث «قلب السيناريو» إذ يثور صاحب الحذاء من الرشفة الأولى للقهوة التي سيبصقها مشفوعة بسلسلة من الشتائم منها ما يستعيره من قاموس جد راويتنا الذي يصفه دائما بالجحش. ويقابل رغبته في مسح الحذاء بعبارة «هل بلت في الفنجان»؟ أما الاحتمال الثاني فإن صاحبنا هو الذي يكون مستلقيا تحت صورة صاحب شركة الوطن بالحذاء الفاخر ذاته وأن الآخر هو من يجلس أمامه ويعترف له بأن حذاءه شهي ولا يقاوم، بل ويكبت رغبة في الانحناء عليه وتلميعه. قبل أن تتغير الأمور مع أول رشفة للقهوة ويحدث بالضبط ما حدث في الاحتمال السابق. في لعبة قلب أدوار بديعة يتساوى فيها الناهر و المنهور في ممارسة سلطة يسفهها الكاتب باستعارة بليغة: مسح الحذاء. ولا بأس أن تحيل الرواية المشتغلين على الرموز إلى الإشارات التي تجود بها عبقرية الكاتب بداية من الصفحة الأولى وبالضبط من العمارة الآيلة للسقوط، ومرورا بوجوه موحوش الممثل الشرعي للبهتان والنموذج الناجح في المجتمع الذي تستهدفه الرواية بهجائها غير الظاهر وليس انتهاء بالكهل المشرف على السادسة والخمسين، العمر غير الاعتباطي والرقم المضبوط في تقدير الزمن المهدور من عمر شخص أو عمر بلد. وليس انتهاء برئيس الشركة الذي يستلقي ذوو الأحذية اللماعة تحت صورته. حتى و إن لم يخبرنا الراوي أكانت الشركة ذات الرئيس هي نفسها عمارة الطوابق الستة التي تجري تحت أساساتها أسباب الفناء ! و في غابة الرموز ذاتها قد نضيع مع الراوي وهو يُدهس على طريق سريع أراد عبوره ذهابا إلى مبروكة، وقد لا يدهس لأن السيارة التي تدهسه تقذفه إلى سيارة أخرى تعهد به إلى أخرى فأخرى، وقد يتمدّد في كابوس آخر بين مبروكة وسمونة اللتين تتجاذبانه من يديه حتى تأخذ يداه في التمدد، فتذهب يد مع مبروكة وأخرى مع سمونة ولا يصحى من ذلك إلا على عصا الجد المستلذ بضربه وهو يردّد كالعادة «جحش، جحش، جحش». في موقع ما من الحكاية المشطورة يلتقي الراوي بموحوش في المقهى، فينقل الثاني خبرا للأول: «لقد جننت»، غير ان الراوي يثني من عزيمته بالقول «فعلت ذلك قبلك، ولا أحد أراد تصديقي». ويتحول النقاش بينهما إلى بحث مستقبلهما كمجنونين يتعرضان إلى متاعب لأن الآخرين لا يأخذون الأمر على محمل الجد. وينتهيان إلى أن لكل شيء ثمن يجب دفعه. أي الجنون ذاته يستدعي دفع ضريبة من اجل تحقيقه. أهوال كثيرة تجري في الرواية -على صغر حجمها- تبدو الإحاطة بها غير ممكنة وقد حاولنا في هذه القراءة البسيطة عرض بعض الوقائع استدراجا للمتعة ( يحتاج النص إلى أكثر من قراءة عميقة) لكن الرواية ككل تبقى عصية عن التلخيص ومفتوحة على التأويلات، فحتى وإن قدم الكاتب أكثر من رواية لروايته فإن روايات بيضاء أخرى رافقت الراوية في تشكلها، روايات مكتوبة ببياض يتهجّاه القارئ حتما. وفي نهاية المطاف ينعي الكاتب أو الراوي وقد التبسا، نهاية حكايته متأسفا لنهايتها على هذا النحو. لكن النهاية ستكون صاعقة ومذهلة بكل تأكيد. البطل يهم بالقفز من الطابق السادس، و جمع غفير يرقب المشهد، تماما كما في السينما وكما صار يحدث في الواقع. لكن الأمر يختلف هذه المرة، لان شيئا ما حدث في الرواية جعل الأمر مختلفا والأمر يقبل احتمالين كالعادة: إما ان البطل فوق، وجوقة المجانين تحت، وإما أنه تحت، يدخن ويرقب ببرود مجموعة مجانين يهددون بالقفز من الطابق السادس. وبالطبع لن نجد احتمالا أرفع ولا أجمل من هذه النهاية لرواية بديعة. وبعد حشد محمد علاوة حاجي طاقاته المختلفة ليقرأ الحياة من وجهة نظر رجل سيكوباتي سنكتشف في نهاية المطاف أنه ليس كذلك، أي أن الجنون العام هو الذي يخترع للجنون الخاص شكلا لا يناسبه. واللافت أن أهجيته الرفيعة خلت من المباشرة التي عادة ما نلمسها في روايات تقارب هكذا موضوعات، أي أنه أخلص للشرط الفني وهو تمرين لا يجتازه بنجاح سوى كتاب الرواية الكبار. وبالمقابل قدم شهادته الفنية عن بلد عمد إلى محو أسماء مدنه وأسماء شوارعه، بلد يشبه الشركة أو العمارة سالفة الذكر، مستعينا في سروده بلغة كوميدية سوداء لا تتوفر إلا للضالعين في إثم المعاني المتشبعين بالألم الخلاق. خاتمة لا تحتمل الاحتمال حين نطوي رواية "في رواية أخرى"، نكتشف أننا اكتسبنا روائيا حقيقيا، نتمنى ألا يتوقف أبدا عن الكتابة وأن يجعل من الرواية همّه الأول. ...................... في رواية أخرى، منشورات الشركة الوطنية للنشر والإشهار أكتوبر 2013