في الحديث حاليا عن علاقة التاريخ بالرواية، وهذه بذاك، في المشهد الأدبي الجزائري خاصة، يتجه الاهتمام حتما صوب الذاكرة؛ أي إلى ما تراكم بفعل تجربة الصدام الدموية بين الجزائر، التي كانت أرضها مسرحا لذلك، وبين فرنسا الامبريالية، التي خرجت من هذه الأرض بعد مائة واثنين وثلاثين عاما من العنف والتدمير والاستئصال من جانبها، ومن المقاومات والممانعات والتصديات التي بلغت في 1954 أوج نضجها وتنظيمها وانتشارها، من جانب الجزائريين· ولآثار ذلك، التي لا تزال سارية في الوجدان، قائمة في الفضاء، ممتدة في الزمن، متحركة في الذاكرة، وجدت الرواية الجزائرية نفسها في مواجهة سؤال التعامل مع تجربة ذاك الصدام· فالمتتبع لا يفوته أن يعاين أن نوعا من الكتابات باللغة الفرنسية خاصة عند بعض جيل ما بعد الاستقلال، أولئك الذين نشأوا في المهجر أو الذين هاجروا لاحقا، حاولت أن تؤسس لما يمكن اعتباره ''مصالحة'' مع ''عدو الأمس'' الذي يجب أن يصبح ''صديق اليوم'' أو ''مواساة'' للحنينيين الذين فقدوا في الجزائر ''نعيمهم''· وفي الحالين تغدو تلك الكتابة جسر عبور فوق نهر تاريخ الجزائرالمحتلةوفرنسا الاستعمارية معا، والذي لا يزال فريق من صانعيه هم أولئك الذين تتوجه إليهم هذه الكتابة، ليجدوا لها رجع الصدى في مذكراتهم وشهاداتهم وتصريحاتهم السياسية· إنها كتابات لا تواجه ذلك السؤال بمرارة صيغته؛ فهي لا تخونها الشجاعة شجاعة إرضاء الآخر ولا الموهبة أحيانا، ولكن تكبلها حسابات ونوايا وطموحات يدركها جيدا أصحاب دور النشر، إن لم يكونوا هم موجهيها، ومن ورائهم مؤسسات رسمية تسهر علنا على دعم كل ما يجعل من ذلك التاريخ مادة يعاد تشكيلها روائيا وسينمائيا أيضا بما يمجد، استعاريا طبعا، الفعل ''الإيجابي'' و''التمديني''؛ أي تبييض صفحة الجريمة وغسل العار· وكم سيكون ذلك مهما عندما يوجه للجزائريين ولذاكرتهم بأقلام جزائرية! والمؤسف جدا، كما يلاحظ، أن تنزل تلك الأعمال إلى الجزائر فيتم تقديمها، وحتى في مستويات جامعية، مبرأة من كل نية مسبقة، تحملها هي ذاتها عن ذلك التاريخ المشترك بحكم القوة ليبدو وكأنه صنعه طرف واحد لصالح طرف ثان كان غائبا· ولا تعني الإشارة هنا اللوم على القارئ الجزائري الذي له الحق في أن يقتني لمطالعته ما يشاء مما توفره له سوق الكتاب· إن قراءة متأنية ونبيهة لهذه الأعمال ستحصّل لا محالة رسما مشينا لشخصية الجزائري المرأة والرجل أكثر بؤسا وكاريكاتورية مما رسمته الكتابات الكولونيالية ذاتها· فكتابة روائية، باللغة الفرنسية نفسها، تتجرأ على أن تجيب عن سؤال الصدمة، بحقيقة الصدمة كما وقعت، بنتائجها المدمرة لبنيات مجتمع مغاير بثقافته ولغته، بمخلفاتها النفسية التي تولد عنها هذا التمزق بين العودة إلى الجذور لإعادة صياغة الذات وبين القطيعة للتغرب في ما يعرضه ذلك الآخر، لن يكون لها حظ وافر في الانتشار إن تعدت، لسبب من الأسباب، عتبة دار نشر فرنسية خاصة· وربما هي لن تعرف النور أبدا· ولكن، ألم يأن للرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، إن تم استثناء عدد قليل جدا من كتابها الذين واجهوا بنصوص قليلة جدا سؤال الصدمة، أن تتورط في ''حرب الذاكرة''؟ وهل الكتابة بالعربية أصلا في موضوعة تاريخ احتلال الجزائر وحرب التحرير بما يترتب عن ذلك من خروج عن المهادنة التي يكرسها بعض تلك الكتابات الأخرى ستجد لها استقبالا، ما دامت المقروئية المعربة لا تبدو منشغلة بتلك ''الحرب'' بالدرجة التي هي عليها المقروئية المفرنسة؛ إلا استثناءات؟