من ذخائر اللغة الشائعة عندنا في الجزائر أن تكون مفردة ''الحَرفة'' مقلوب ''الحُفرة''، ذلك المقلوب الذي أثار انتباه فقهاء اللغة مثل جلال الدين السيوطي في المزهر في علوم اللغة وأنواعها، الذي يتحدّث عن القلب في جَبَذَ وجَذَبَ· هذا ما يمكن أن توحي به أيضاً المفردتان الأكثر تداولاً في اللسان الجزائري، إحداهما قلب الأخرى، بالمعنى المزدوج للقلب: اللُبّ والعكس، أي إحداهما تنطوي على الأخرى أو تؤول إليها، وإحداهما هي معكوس الأخرى، ليس بمعنى الضدّ ولكن بمعنى المقلوب على غرار انعكاس الشيء في المرآة، فتبدو ملامحه بمقلوب ما هو عليه في الواقع· فالحُقرة هي خطوة خطيرة نحو الحَرقة، والحَرقة تعبّر عن التعاسة التي يحياها الفرد في المجتمع، عندما تنحسر الآفاق أمام وعيه، ويصبح مستقبله بمثابة سراب متصحّر يجري وراءه دون بلوغه· فيفرّ نحو ما يعتبره سعياً نحو موطن أفضل، أو خلاصاً من تعاسة الذات· ولكن هل لهذا السعي من منتهى سعيد يصل إليه الفرد أم هو بداية مغامرات غير محمودة العواقب، بدءاً بالهجرة غير الشرعية ومخاطر السفر في البحار وانتهاءً بالاغتراب في ديار تشمئزّ من الغريب الوافد وغير(persona non grata) ؟ الحُفرة هي ظاهرة اجتماعية تزن بكل ثقلها على الوعي الفردي والجماعي، وتولّد الرغبة في الحَرقة أي هجران الذات· لأنّ الأفراد، وهم في الغالب الشباب العاطل، يشعرون بالغرابة في ديارهم قبل الغرابة عند أغيارهم· فكيف لا يُفكّرون في الحَرقة إذا كانت الحُقرة تؤطّر وعيهم أو مساحة تفكيرهم وتدبيرهم؟ الحُقرة هي ''الإحاطة'' القاتمة والقاصمة التي بدونها تصبح الحَرقة غير ممكنة· إنّها اللوحة الخلفية الحالكة التي تنعقد ثمّ تنفكّ على خلفيتها الأواصر الاجتماعية· فإذا أمكننا قراءة السلوك ''الحَرقي'' من وجهة نظر سوسيولوجية أو فلسفية أو نفسية، من الواجب إذاً التساؤل عن الأمر الذي جعل السلوك ''الحُقري'' ممكناً· هل هذا السلوك هو بمثابة كراهية الذات؟ وأقصد بالذات هنا ''الذات الجمعية'' التي تتخلّلها علاقات في القوة، كأن يكون للمسؤول السياسي سلطة إدارة الأفراد، ومكانته النخبوية تولّد عنده الشعور بالعظمة أو الكبرياء، فتكون علاقته بمن يسوسهم علاقة الهجران أو النكران· وهو الأمر نفسه يتبدّى عند المسؤول الاقتصادي الذي له إدارة الشؤون والأعمال، كأنْ يدير مؤسّسات اقتصادية أو تجارية، وتجبره المنافسة الدولية أو التماس الربح الوافر والسريع على الإحالة على البطالة العشرات أو المئات من العُمّال· فلا يكترث بمصيرهم ولا تسوؤه حالتهم· هذه الحُقرة المادية في هشاشة المقوّمات الأساسية لحياة مستحقَّة تقابلها الحُقرة الرمزية التي تتجلّى خصوصاً في ''الإقصاء الاجتماعي'' لاعتبارات ذاتية لها علاقة بالانتماء السياسي أو الديني أو الجهوي أو العُرفي· الحُقرة الرمزية هي أشد وطئاً وخطراً، لأنّها لا تخصّ ما يسعى من أجله الفرد أي حياة محترَمة لذاته ولذويه، ولكن ما هو عليه الفرد بحُكم انتمائه أو من جرّاء قناعاته السياسية أو الدينية· لكن إذا كان المجتمع الجزائري يتقاسم ذخائر لغوية وتاريخية ورمزية واحدة كما يدلّ عليه ما أسمّيه ''جسد النواميس'' (أو الدستور)، ما هو الأمر الذي جعل من الحُقرة أمراً ممكناً، والذي جعل بدوره من الحَرقة ظاهرة ممكنة؟ فليس في الثوابت يمكن البحث عن علّة الأمور، لأنها تتجسّد في ما أسمّيه ''حرفيات الشعيرة'' أي جُملة الشعائر والأعراف والرؤوس الأموال الرمزية (بتعبير بيير بورديو) التي يقوم عليها المجتمع الجزائري أو يتقوّم بها، ولكن في المتغيّرات التي أسمّيها ''تحريفات العشيرة'' بمعنى في الانتماء الإيديولوجي (السياسي منه أو الاقتصادي) الذي يحتكر بعض الامتيازات ويُقصي منها الباقي من الشرائح الاجتماعية، ومن بينهم الشباب· فما تنصّ عليه الأعراف أو القوانين لا يجد أعيانه في الواقع، لأنّ ما يمكن اعتباره ''الجسد الحَرفي'' للوعي الجمعي (نصوصه وقوانينه وأعرافه) هو ''مُحرَّف'' بجملة من الاختراقات أو الاقصاءات أو الاغراءات والتي تتبدّى في السياق الذي نتحدّث عنه، أي في الحُقرة الآيلة إلى الحَرقة، وفي الرشوة والفساد، وفي المحسوبية وغيرها من السلوكات المغذّية للحُقرة والتي تهدّد البنيات المادية والرمزية للمجتمع الجزائري· لا شكّ أنّ الحُقرة هي الأرضية التي تنطلق منها التعاسة، أو بتعبيرنا هي ''الإحاطة'' الاجتماعية والوجودية التي يسعى الفرد للفرار منها· الشباب هم في مقدّمة هذه التضحية الجماعية، ويليهم أصحاب الوظائف الليبرالية من إطارات وأساتذة وأطبّاء ومثقفين الذين، رغم شهاداتهم الجامعية أو مهاراتهم النظرية أو العملية، يفتقرون إلى عاملين متكاملين: ''العامل المادي'' كأن تكون الأُجَر دون الكفاءة النظرية أو المجهود العملي في تعليم الأجيال الصاعدة وتكوينها، و''العامل الرمزي'' الذي يتبدّى خصوصا في ''الإعتراف''، أي أن يكون لأصحاب هذه الوظائف مكانة تاريخية ليس فقط في صناعة الواقعة المعرفية في نطاق تخصّصهم ولكن أيضاً في أداء أدوار الوساطة على الصعيد الديمقراطي كبورجوازية فاعلة وخالقة للثروة المادية واللامادية· أمام انسداد الأفُق، يصبح المهرب الوحيد للفرد هو الحَرقة، وهي مفردة عجيبة في تركيبتها، لأنّها تنطوي على مخيالات معقّدة وحساسيات رهيفة· الحرقة هي نوع من الاحتراق بلوعة الاغتراب والتنصّل من الأواصر التي تشدّ الفرد إلى أرضه وذويه· و''الاحتراق'' بلوعة الاغتراب هو نوعاً ما ''الاختراق'' كرفض للواقع أو ثورة على الوضع: اختراق الأعراف والقوانين بالسفر نحو المجهول والممنوع· ولكن السفر إلى أين؟ ربما يسافر الحرّاقة في خيالهم قبل السفر نحو مكان معلوم (السواحل الأوروبية) أو مجهول (التيه في الدروب الوعرة)، لأنّهم يتوهّمون بأنّ ما يسافرون نحوه هو أفضل ممّا يهجرونه· لكن هذا الوهم (أو السفر في الأحلام) يصطدم بحقيقة عسيرة على أكثر من صعيد: 1- لم تستثن الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة أيّ بلد، وكلّ بلد يتّخذ التدابير المواتية لضمان العمل لمواطنيه، بما في ذلك الدول الأوروبية· فكلّ هجرة نحو هذه الدول يواجهها التحفّظ وأحياناً الرفض· 2- ساهمت هذه الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الصعبة في تنامي النزعات العُنصرية والمعادية للأجانب، حيث يرى المواطنون الأصليون المهاجرين الوافدين بعين الكراهية والحقد· 3- لم يعُد هذا الانغلاق على الذات ونفي الآخر مجرّد حساسيات شعبية تغذّيها الإيديولوجيات العنصرية أو الإعلامية، ولكن أصبح سياسة تنتهجها بعض الدُول في بناء الأسوار المنيعة والتوقّي من الحملات الخارجية للهجرة غير الشرعية· الحَرقة هي شرخ عنيف وفظيع في الجسد الاجتماعي وفي الذاكرة الجمعية، لأنّها لا تعني فقط هجران الشباب أو النُخب لأوطانهم لما في ذلك نزيف في الطاقات الحيّة وفي الثروات البشرية، ولكن لما في هذه الظاهرة من انهيار الأحلام وتفكّك الروابط وفقدان المصداقية يصبح فيها الأليف غريباً والقريب بعيداً، وتصبح العلاقة بين الأفراد ومسؤوليهم علاقة عصيان وطغيان، ليضحى المجتمع في رمّته عُرضة للإحباط والتصدّع· لا شكّ أنّ هذه الظاهرة هي بحاجة إلى قراءة متأنّية وحلول مواتية، لا ينفع معها القمع المدني أو الفتاوى المرتجلة· فلا يمكن مقابلة الفراغ الذي يستشعره الأفراد بسياسات بعيدة عن همومهم ومآسيهم، ولكن ملء هذا الفراغ بالبدائل المادية وذلك بتوفير العمل والحماية اللازمة للشباب العاطل، وبالمكاسب الرمزية بالاعتراف بدور أصحاب الوظائف الليبرالية في الاستقرار السياسي والسلم المدني والنمو الاقتصادي· فماذا يبقى للبلد إذا هجرته الثروة البشرية وهي الشباب والثروة الرمزية وهي النُخَب؟ لا شك أنّها ''نهاية تاريخ'' هذا البلد، لأنّ ما يصنع تاريخه ليس فقط الماضي بمفاخره وذاكراته، ولكن أيضاً الحاضر الحيّ بطاقاته ومهاراته· فلا بدّ من استمرارية تاريخية تغنيه عن القطائع العنيفة؛ والحَرقة هي، في هذا السياق، قطيعة في الحاضر تتشتّت على إثرها الطاقات وتتصلّب الإرادات· فليست الحلول في القوّة العمومية كعامل في الردع، ولا في الخطابات المنمّقة هي على مسافة شاسعة من الواقعية والرصانة، ولكن في الحوار الهادئ والمتواصل مع الطاقات الحيّة للبلد قصد الوقوف على حاجاتها ورغباتها، ودرء همومها ومشكلاتها· فإمّا أن ينجح الجميع بتضافر القوى وإيجاد أرضية مشتركة بالحوار والتفاعل، وإمّا أن يخسر الجميع فيستعمل الراعي القوّة ويستعمل الفرد العصيان ويزداد الشرخ بتنامي الحُقرة وتفاقم الحَرقة· أعتبر أنّ الأمر الذي يمكنه تخفيف الحُقرة في المجتمع الجزائري وبالتالي القضاء على الحَرقة هو ''الحوار'' على جميع الأصعدة، لاعتبار فلسفي وسياسي بسيط هو أنّ الإنسان في بنيته ووظيفته عبارة عن لغة، يتميّز بها عن غيره من الكائنات، لأنّه الكائن الناطق الوحيد· ولا مراء أنّ علاقته بغيره تتمّ عبر التواصل والمحادثة· فإذا انعدم الحوار في المجتمع، فإنّ ''إنسانية'' المجتمع في رمّتها في خطر· لهذا تبدو القوّة والعصيان والطغيان كتعبيرات ''لا إنسانية'' في المجتمع، و يبدو الصمت والمقت أو الهجران والنكران كملامح ''شنيعة'' على وجوه المجتمع· الحوار هو العنوان الإنساني والحضاري الذي يتميّز به كل مجتمع، لأنّه على صورة الإنسان الناطق والعاقل· القوّة في مجتمع الحوار هي استثناء وليست القاعدة· أمّا إذا تحوّلت القوّة إلى قاعدة، فإنّها تغذّي الحُقرة التي بدورها تُغذّي الحَرقة، وتصبح المسألة دوامة لا نهاية لها ولا مخرج منها·