لا أذكر كغيري، وهم كثيرون تأكيداً أني قرأت يوما، في نص جزائري قصصي أو روائي أو شعري معاصر، شيئا احتفائيا بالعيد؛ عيد الاستقلال وعيد الفطر خاصة· فكل الكتاب من جيلي، وممن سبقه وممن لحقه بفارق زمني قريب جدا، لم يفسحوا إلى صوت الطفولة فيهم أن يتذكروا أجواء الأعياد التي كانت ساحرة بعتاقتها؛ كما عيد الفطر الذي يبقى من أبهى ما احتفظت به الذاكرة· فمن الحمامات العمومية المعتمة المسخنة بالحطب المنتشرة في كل حي من أحياء المدن والقرى الكبيرة، والتي تعرف ازدحاما لا نظير له برائحة العيد بدءا من ليلة ''سبع وعشرين''؛ وبرغم ذلك كان تنظيم الخدمة فيها يظل على درجة عالية من الاستجابة؛ من ''الموتشو'' ومن ''الكياس'' ومن ''الدلاك'' ومن صاحب الحمام أو من ينوب عنه المدن والقرى الكبيرة هى ما احتفظت به الذاكرة·متى سيتم حدث خلال تينك الذكريين من كل تظاهرة كانت ستلحق·وراء المصرف يقبض ويرد الصرف ويوزع التمنيات بسخاء· إلى الحفاف أو الحسان أو الحلاق الذي كان محله أيقونة ذات رهبة؛ بمراياها الكبيرة، وعلبة الإسعافات الأولية والمشاجب وكراسي الانتظار· بلون جدرانها الزرقاء الباهتة غالبا، تحمل في أطر من الزجاج صورا فوتوغرافية لأشهر موضات التسريحات بأكثر من وضعية وربما حملت وجوها لممثلين ومغنين مشهورين عالميا أو إقليما أو محليا يوم كانت السينما في الجزائر لا تزال تمارس فعلها السحري، كما الفن الغنائي· فلا تزال صورة الحلاق حية بما اكتسبته من صفة أنيقة هي لأي فنان؛ لرشاقته ووسامته غالبا ومهارة يديه وسلاسة أصابعه· لتسريحته النموذجية، بمئزره النظيف دائما كيفما كان لونه· وللطافته ولباقته ولغته المهذبة ولفتاته الموزونة كما تعكسها المرآة أمامه إنه لذلك يخضع زبونه إلى إرادة حركاته، يفعل برأسه ما شاء بمجرد أن يكون أقفل مئزره الواقي إلى قفاه أو شدّه بمساك بعد غسل شعره غالبا وتنشيفه لتسهيل مرور المشط· مثل طبيب جراح، كانت أدواته توضب في علبها أو تعلق في حوامل أو توضع على مرافع أو يبسط بعضها على رخامة المغسل: الفوطات والسرابيت القطنية، وتلك المآزر المقلوبة صدرا لظهر المغلقة إلى القفا عند إلباسها إلزاميا لكل زبون ذكرتني دائما بتلك التي يكبل بها المصابون بالمس حين ينقلون عنوة إلى المصحات العقلية والنفسية!· والمقص القاطع الطويل والقصير والمقص المخلل وأمقاص أخرى لأنواع الشعر الملساء والجعداء والجافة والرطبة وذات القشرة· والمشط المسرح كبير الأسنان ومشط الحلاقة بجانبين، جانب الأسنان الصغيرة لرفع الشعر عن الجلدة لقصه عند مستوى محدد للتسريحة (طول سنتمتر واحد أو أكثر أو أقل؛ فقد كان كل شيء بقياس) وجانب للأسنان المتوسطة للتسريح وإزالة ما يعلق مما قُطع· ومن المِبْرد الحجري أو الجلدي الذي يسن عليه الموس ''الرازوار'' الذي كان سلاح ''الهُزّية'' وأداة تشويه الوجوه في العراكات والانتقامات بين أفراد العصابات· إلى نفاثة العطر الزجاجية بكرة هوائها وأنبوبها الرذاذ، إلى القصاصة ''تونداز'' الآلية فالكهربائية لم تكن انتشرت بعد· ومن أطباق الحلوى التقليدية المتوارثة في العائلات الجزائرية غربا وشرقا وجنوبا وشمالا؛ منها خاصة الكعك بأنواعه حسب المناطق، وقلب اللوز وباحلاوة والمقروض والغريبية، إلى المسمن، إلى البغرير بالعسل، إلى قصعة الطعام أو المعاش أو الكسكس عند الغداء· ومن العباية والقشابية والكنبوش والعمامة والشاشية والطربوش إلى الملحفة والحايك والملاية إلى الزرنة والطبل والغايطة والمزود· إلى أفواج النساء والرجال والفتيات والفتيان والأطفال الغادية الجاية على المقابر· إلى تسريحات الشعر التي كانت الصبايا يخرجن عليها، مثل الصبيان، وأنواع ضفائر الطفلات الصغيرات ومساسيكها وكيفيات عقصها· ولكن، يا لرائحة الحناء ولونها في كفوف الأطفال؛ بنات وبنين! الكتاب لا يكادون يذكرون ذلك أو بعضه لأنهم انقطعوا جذريا عن أمكنة صباهم وطفولتهم ومراهقتهم· فإنهم إما كانوا غادروها قسرا، كالذين عاشوا طفولتهم الأولى في خضم حرب التحرير، أو أجبرتهم ظروف عائلاتهم للانتقال إلى المدن وضواحيها طلبا للعمل في سنوات الاستقلال الأولى التي كانت أخرجت إلى الواقع آثار قرن واثنين وثلاثين عاما من القهر ونشرته في الشوارع والساحات والقرى والأرياف مظاهر للفقر الأشد حزنا· أما عيد الاستقلال فإنه، بالنسبة إلى الذين ولدوا خلال ذكراه الأولى أو الثانية أو بعدهما، لا يشكل حدثا؛ لأنه لم يتواصل بقوة فيض الفرح والانتشاء والشغف الذي عرفناه نحن الأطفال خلال الذكريَيْن الأوليَيْن· فالجزائريون، وقتها، وبتلقائيتهم هم الذين كانوا حولوا تلك الذكرى لمرتين أو ثلاث إلى عيد وطني حقيقي أضخم من كل تظاهرة كانت ستلحق خروج الجزائريين يوم تأهل منتخبهم إلى كأس العالم الأخيرة لم يكن سوى صورة مصغرة لما حدث خلال تَيْنك الذكرييْن؛ الأولى خاصة· وفوق ذلك، فإن جيل ما بعد الاستقلال يكاد يغادر هذه الدنيا من عير أن يكون عرف متى سيتم تأسيس عيد الدولة الجزائرية· فما أكثر أعيادنا! ما أقل فرحنا بها! وما أشدنا حزنا نداريه كل عيد!