على غرار أهازيج ''الرحابة'' في الشرق الجزائري، ارتبطت الأهازيج النسوية في ''ترارا'' بالثورة، ما الذي جعل هذا الفن القديم جدا يرتبط بحدث كهذا دون سواه وكان محصورا في مواضيع محددة؟ الأهزوجة في منطقة ''ترارا'' بأقصى الغرب الجزائري، هي شكل من أشكال الفنون الشعبية الغنائية، فهي بالتالي شكل وليس مضمونا، بمعنى أن الأهزوجة إنما هي تعبير شفهي غنائي فني عن مضمون معين. الأهزوجة في المنطقة لا تخص الثورة وليست خاصة بها، وإنما الحدث ''الموضوعي'' هو الذي فرض هذا الموضوع (الثورة) على الشكل، أي الأهزوجة. ففي الكتاب، مواضيع أخرى تغنت بها الأهزوجة: مواضيع اجتماعية ودينية (الأفراح، الأعراس، المناسبات الدينية كيوم عاشوراء والعيد والمولد النبوي الشريف وغيرها من المواضيع). غير أن الثورة طغت على كموضوع على الأهزوجة، حتى أنها في الفترة التي تلت الاستقلال مباشرة وإلى غاية السبعينيات، كانت الأعراس والحفلات الاجتماعية الأخرى، رغم تغني النسوة بالمواضيع الاجتماعية الأخرى كالأهازيج الخاصة بالعرسان والمواضيع الاجتماعية المختلفة، إلا أن موضوع الثورة التحريرية بقي يطغى كأداء غنائي حتى في هذه المناسبات ''غير الوطنية''! بينت الدراسة أن الأهزوجة الجماعية هي أمازيغية، فما الذي يجعل الأمازيغ المستعربين ''ينكرون'' انتماءهم؟ ذكرت في مقدمة البحث أن المنطقة كلها ''ترارا''، هي في الأصل قبائل بربرية شلحية، لكنها تعربت بفعل العوامل التاريخية، على اعتبار أن المنطقة (ولاية تلمسان بشكل عام) كانت دائما تمثل ممرا ومعبرا تاريخيا لكل الأقوام التي دخلت بلدان الشمال الإفريقي من عهد الإغريق والفينيقيين والرومان بشقيهم الغربي والشرقي (البيزنطيين) والوندال والعرب المسلمون، كلهم مروا عبر هذا الممر بين كتلتين جبليتين: سلسلة جبال ترارا والأطلس التلي: فقد شكل الممر هذا، الذي يمثله اليوم ممر وادي تافنة والطريق الوطني رقم 35 الرابط بين وهران ومغنية إلى الحدود المغربية، ممرا لكل الغزوات والحضارات الوافدة. وقد جاء العرب والمسلمون واستقر كثير منهم بالمنطقة على اعتبار أنها منطقة عبور، حيث كانت مختلف القبائل البربرية التي استملت منذ الفتوحات الأولى، دائمة الاحتكاك مع الوافدين الجدد، لاسيما مع دخول عرب بني هلال ووصلوا إلى المنطقة في نهاية المطاف أي بعد نحو 150 سنة من دخولهم بلاد الشمال الإفريقي ووصولهم إلى سهل ''مغنية وجدة'' الذي لا يزال إلى اليوم يحمل اسما عربيا هلاليا ''أنجاد'' (حجع، ''نجود'': المراعي!). ونحن نعلم أن هذه القبائل العربية البدوية الرعوية قد ساهمت بنسبة عالية جدا في تعريب المنطقة كلها، أي بلاد الشمال الإفريقي بكاملها، بما في ذلك قبائل الشاوية! على اعتبار أن الشاوية والهلاليين تقاسموا نفس الفضاءات الرعوية، أحيانا بالقوة وأحيانا باللين والتفاهم! وكان أن وقع انصهار تاريخي بين القوميتين، كان بالتأكيد للإسلام دور أساسي وفعال في هذا ''الصهارة'' الثقافية التي سميتها في المؤلف ''بالعجينة الثقافية، فيما يتعلف بسبب ''نكران'' أمازيغ المنطقة لأصولهم، فليس مرده إلى ''التنكر للذات'' بل قد يكون إلى ''نكران الذات''! فلقد فقدوا اللغة (الأمازيغة) التي كانت تميزهم عن غيرهم، ونحن نعرف قيمة اللغة في تشكيل وبقاء الهوية الفردية والجماعية! اللغة الأمازيغية قد ضاعت منهم من فرط تعايشهم مع العرب، إلى درجة أنه مع مرور التاريخ، ودخول الدين الإسلامي كعامل حاسم في تعليم القرآن والسيرة والحفظ والصلاة والدعاء وما إلى ذلك، جعل من البربرية تتراجع لتنقرض بشكل شبه نهائي لصالح العربية المحلية! لهجات محلية حسب درجة انتشار العرب بالمنطقة: لهجة ندرونة، لهجة تلميسان، لهجة سواحلية والغزوات، لهجة مسيردة وجبالة.. وبني بوسعيد والكاف والزوية مثلا: هذه الأخيرة، كانت إلى غاية الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي 940)1 950 1) تتحدث حصريا بالشلحة! وإلى اليوم لا يزال سكان الزوية والكاف وبني بوسيعد على الحدود المغربية يتحدثون الدارجة العربية دون لكنة، ولكنهم يجيدون اللهجة الشلحية. فالسكان الآن يعتبرون أنفسهم ''عربا'' لأنهم لا يعرفون إلا العربية، ومن لا يعرف إلا اللغة واحدة فأكيد أنه سيميل إلى تحديد هويتيه بناء على اللغة هذه! كيف كتبت الأهزوجة النسائية تاريخ الثورة، هل يمكن الاستناد إليها في معرفة حقيقة ما جرى؟ بقيت أعمل في الميدان زهاء ثلاث سنوات من البحث والتنقل والجمع. التقيت بنساء عديدات بعضهن قد توفاهن الله وبعضهن لازلن على قيد الحياة، وقد زرت بعضا منهم قبل شهر فقط! شهادات هؤلاء النسوة، يمكن أن تكون مرجعا لكتابة تاريخ المنطقة القريب، لاسيما تاريخ الثورة المسلحة ! فهن، شاهدات معاصرات بل ومتفاعلات وفاعلات، بعضهن أرامل شهداء وبنات شهداء وأمهات شهداء! قليل من المجاهدين في المنطقة.. وكثير كثير من الشهداء! هذا ربما ما يفسر سلطة هذه الأهزوجة على نساء وسكان المنطقة من الذكور والنساء! هناك شهادات كثيرة لم تكتب وقد ضاع بعض منها. لهذا أعتبر نفسي قد أنقذت جزءا من الذاكرة الفنية التاريخية من الموت! لقد جمعت ما أمكن لي جمعه حول موضوع الثورة، لأني كنت أعتبر أن هذه الأهازيج الخاصة بموضوع الثورة مرتبط بجيل قد ينتهي وتنتهي معه هذه الذاكرة التي لا يجب على أية حال أن تمحى كما محيت أجزاء من ذاكرة أمتنا وشعبينا عبر التاريخ.