أسّس عبد الكريم لخضر الزين، مع بداية التعدّدية الإعلامية وانفتاحها، أسبوعية ''لوكرونيكور'' الناطقة بالفرنسية، وخاض على غرار زملائه من ذاك الرّعيل من الصحفيين القادمين من القطاع العمومي، تجربة التّأسيس والتغريد خارج سرب القطيع. وبمحض الصدفة وأقداري العجيبة، كنت مقيما في العام 1990 بمدينة المديّة. وقرّرت ذات صباح أن أتوجّه إلى مقرّ الجريدة بحي ''المصلّى''، وأطلب لقاء مديرها العام (ع. ل. الزين)، لأعبّر له عن إعجابي بافتتاحياته الشاعرية، وهو ينتقد أوضاع البلاد ويتحدّث عن أوجاعها، وأطلب بالمناسبة إمكانية اعتمادي مراسلا للصحيفة من الجزائر العاصمة، حيث كنت طالبا بالجامعة. كانت ''لوكرونيكور'' في أعدادها الأولى، ورغم ضغوط العمل، استقبلني الزين بابتسامة عريضة، وفهم قصدي من دون أن أتحدّث إليه في الموضوع. بالتّأكيد نحن نحتاج إلى كلّ الطاقات الشابة.. متى كنت مستعدا للإمتحان، مرحبا بك. شعرت لحظتها أنّ أبواب الجنّة قد فتحت، وكنت محظوظا بقرب العطلة الصيفية، فتفرّغت للجريدة، أتعلّم أبجديات العمل الصحفي، عن لخضر الزين ومدني قصري ومحمد نابي، وأقرأ افتتاحيات عميد الصحفيين، آنذاك، المرحوم عبد القادر سفير الرئيس الشرفي للجريدة، المعتكف بمنطقة ''بن شكاو''. وعندما صدرت النسخة المعرّبة ''المحقّق'' وجدت نفسي إلى جنب مدني قصري للإشراف على إنجازها؛ بترجمة ما ينبغي من مادة عن الصحيفة الأم الناطقة بالفرنسية، وإضافة مادّة أخرى خاصة بالنسخة العربية. كان الزين لا يتقن تماما اللغة العربية، أو هكذا يبدو، وحين أقوم بترجمة افتتاحيته، يطلب منّي أن أقرأها له، ويوقفني عند بعض الفقرات.''لا ليس هذا المعنى الذي أقصد. غيّر العبارة بأخرى أكثر دقّة. ضع هنا فاصلة. وهنا نقطة فاصلة. أريدك أن تجد كلمة أخرى غير هذه.. كلمة تعبّر عن الحزن العميق. وهنا كلمة فيها نسبة من الأمل. أعد قراءة الفقرة كاملة مرّة أخرى.. نعم هكذا يستقيم المعنى''. قلت له: ولكنّك تقول بأنّك لا تعرف العربية. فيجيبني: ''أعرفها بإحساسي.. هل نسيت بأنّني أنا أيضا عندي محاولات شعرية كثيرة بالفرنسية. فعندما تكون مبدعا، ستشعر بالإبداع أيّا كانت لغته. فأنا أكتب بالأحاسيس، والأحاسيس تتجاوز كلّ اللغات''. في العدد الثامن أو التاسع من ''المحقق'' قرّر لخضر الزين توقيف إصدار الجريدة لأسباب اقتصادية، وفكّر في توقيف النسخة الأم، لأنّ عدم التواجد بالعاصمة في تلك الفترة كان يضاعف من تكاليف الإنجاز، علاوة على شحّ مداخيل الإشهار ومطالب المطبعة بالتسديد وعدم صبر بعض المتعاونين والمراسلين على تلقّي مستحقاتهم. توقّفت ''المحقق''، واستمرّت ''لوكرونيكور'' بتضحيات الزين الجسيمة زمنا غير طويل حتى لفظت أنفاسها. وبعد عشر سنوات مرّت كلمح البصر، وبشارع ديدوش مراد بالعاصمة، لمحته متأبطا كمشة من الأوراق وهو يتأهّب للدخول إلى إحدى العمارات، فلحقت به عند مدخل شقّة، وبادرته بالتحيّة. وبذات الإبتسامة، وما تبقّى من نظرة ثاقبة، راح يسلّم عليّ ويسأل عن أحوالي، وطلب منّي أن أرافقه إلى مكتبه الجديد. لم أرغب بسؤاله عمّا يفعل ليستمرّ في الحياة. فالحزن كان باديا عليه، وازدادت بقع الصلع في رأسه، وانكمش منقاره من قلّة التغريد. سألته فقط: أين تكتب وتنشر مقالاتك الجميلة يا سي لخضر؟ فأجابني: أكتب لنفسي ولا أرغب بالنشر. لقد جنت عليّ الصحافة لأنّني لم أمرّغ رأسها في وحل الفساد، ولم أجعل منها مطيّة لبلوغ أهداف غير أهداف أي إعلامي مهني نبيل. ألا تلاحظ أنّنا مقبلون على عصر جاهليّ جديد. حضّر نفسك جيّدا لهذا العصر يا بنيّ.. فبعد سنين قليلة، تأتي صحافة يخجل الواحد أن يدخلها إلى بيته، وأخرى للتنابز بالألقاب.. وسوف ترى العجب. من يومها لم ألتق لخضر الزين، ولكنّني أذكر جيّدا ما قاله لي عند مدخل ذاك المكتب العجيب، وأنا أتصفّح الكثير من يوميات وأسبوعيات العصر الجاهليّ الجديد، وأحنّ إلى البدايات حينما كان الزين يأخذني معه من المدية إلى العاصمة على متن ''بيجو ''204 زرقاء اللون، لبحث حلول الإستمرار في طبع الجريدة لدى مطابع الدولة. فلا خيّبك الله أيّها الرجل وإلى اللقاء في مشروع جميل.