في هذا الحوار، يؤكد الأستاذ عبد العزيز بوباكير على أن تولستوي لم يكن أديبا عاديا، وإنما شاهدا على العصر، عرف كيف يتواصل مع أهم شخصيات عصره، مثلما تؤكد مراسلاته التي جاوزت 19 ألف رسالة بأكثر من 29 لغة، مشيرا في السياق ذاته إلى أن قيصر الأدب الروسي أبدى اهتماما بالإسلام من منطلق نزعته الصوفية· عرف عن تولستوي مراسلاته الكثيرة مع شخصيات من مختلف بقاع العالم، لدرجة اهتمام البعض بجمع الرسائل فيما يعرف أدب المراسلات، ومع ذلك يبقى الاطلاع على هذه المراسلات محصورا على المختصين؟ هذا صحيح، ويمكن التأكد من ذلك من خلال الرجوع لمتحف تولستوي بمنطقة بالانا، الذي يضم أكثر من 19 ألف رسالة مدوّنة بأكثر من 26 لغة، هو رقم ضخم يؤكد على مكانة تولستوي في عصره، إذ أنه لم يكن مجرد كاتب مهمّ في بلاده أو في الأدب العالمي وإنما مصلح إنساني سعى إلى التواصل مع كل قوى الخير عبر العالم، وهو ما يؤكده الكم الكبير من الرسائل المتبادلة مع كبار العالم، نحن نتحدث عن فترة لم يكن التواصل مع الآخر بالأمر الهين، ومع ذلك نجد الأديب والمصلح الروسي يتشارك مع كبار زمانه لتبادل الأفكار والتعرّف على ما يحدث عبر العالم· كل هذه المراسلات تؤكد على مكانة وقيمة الرجل ونزعته الإنسانية، إذ لا بد من التذكير على أنه لم يكن ينظر لنفسه على أنه روسي فقط، بل كان يعتقد أنه إنسان بغض النظر عن الفوارق أيا كان نوعها، وعليه نجده يتواصل مع شخصيات تختلف معه في الدين واللسان والرق، كل ما كان يشّده تلك النظرة الشاملة للإنسان· بالرغم من هذا الزخم الكبير من المراسلات من شخصيات عالمية، وحده الشيخ محمد عبده من المنطقة العربية الإسلامية تواصل مع الأديب الروسي؟ بالفعل، والمثير أن محمد عبده هو صاحب المبادرة من خلال إرسال أول خطاب إلى الأديب الروسي، وبالرغم من اهتمام قلة من الباحثين العرب بهذا الموضوع إلا أن الرسائل المتبادلة بين الرجلين تعد إلى اليوم بثلاث رسائل، مثلما أكدته دراسة الدكتور مراد وهبة في كتاب ''محاورات فلسفية في موسكو'' والدكتور عبد الودود شلبي في مجلة ''الأزهر''، مع العلم أن رسالة محمد عبده التي كتبها وهو بمدينة عين شمس المصرية محفوظة إلى اليوم بمتحف تولستوي تحت رقم ,2045 وقد جاء رد تولستوي على رسالة المصلح المسلم مؤرخة بتاريخ 12 ماي ,1904 في هذا المقام لا بد من الإشارة إلى أن مهمة الترجمة من وإلى الإنجليزية قامت بها ''ليدي بلنت'' والمعروفة كذلك بترجمة المعلقات السبع، وهي زوجة صديق محمد عبده الشاعر الإنجليزي ولفرت سكاوتن بانت· المثير أن موضوع هذه الرسائل الثلاث بات معروفا دون أن يفتح شهية الباحثين لمعرفة المزيد عن العلاقة بين المصلح العربي والمصلح الروسي، على اعتبار أن هناك من يعتقد أن المراسلات تواصلت بين الرجلين وتجاوزت الرسائل الثلاث المعروفة والمحفوظة اليوم في المتحف الروسي، إذ هناك من يعتقد أن بقية الرسائل ضاعت· وما كان موضوع الرسائل الثلاث المعروفة؟ في الواقع، الرسالة الأولى من طرف محمد عبده كانت بمثابة رسالة إعجاب بأفكار تولستوي، حيث نجد المصلح العربي ينشد الودّ والتواصل، من منطلق تقارب الأفكار بينهما، على اعتبار أن محمد عبده وجد في أفكار تولستوي الإصلاحية ما يتوافق مع ما يطمح إليه في وطنه وفي سائر دول المسلمين· والمثير أن جواب تولستوي جاء على قدر توقعات محمد عبده، حيث بادله الاحترام والإعجاب، فبالرغم من المكانة المرموقة التي كان يتمتع بها تولستوي إلا أن أكثر ما كان يميزه ذلك التواضع الذي ساهم في قدرته على التواصل مع الآخرين· المهم تمحور رد تولستوي حول مواضيع بعينها، محددة تكشف عن طبيعة عقل الأديب الروسي ورغبته في التعرّف على كل ما يدور حول العالم من أفكار ومعتقدات جديدة، بهذا الخصوص نجده يسأل الشيخ محمد عبده عن حقيقة المذاهب الجديدة الواردة من بلاد فارس التي بلغه خبرها دون أن يتمكن من الوقوف على حقيقتها عن قرب، فما كان منه إلا أن سأل عن معتقدات البهائية والبابية التي ظهرت· ففي نهاية المطاف كانا الرجلان مصلحان اجتماعيان يتشاركان في الرغبة على التعرّف على كل الأفكار الإصلاحية الجديدة· هذا يعني أن تولستوي كان على إطلاع بالديانات الشرقية، بما فيها الإسلام، كيف كانت نظرته لمسألة الدين؟ في الواقع، اهتمام تولستوي بمسألة الدين نابع من اعتقاده أن اختلاف الأفراد يؤدي حتما إلى اختلاف المعتقدات الدينية، غير أنه وجد في فترة زمنية تميزت بالاضطهاد باسم الدين، وعليه كان يرغب في تخليص المعتقدات الدينية من كل الشوائب والبلوغ بها إلى ما يجمع ويوحد ويصل بالإنسان إلى مرحلة من الصفاء، ما جعله يحرص على التعرّف على كل التيارات الدينية، بما فيها الإسلام· فقد كان طالبا بمدرسة اللغات الشرقية سنة 1844، حيث تعرّف على اللغة العربية وتعرّف على الإسلام· المثير أن النزعة الصوفية لتولستوي هي التي كانت وراء رغبته في التقرب من مسألة الديانات، إذ لم يكن يطمح لدين أو معتقد جامع، يهتم بالدرجة الأولى بالإنسان أيا كانت الاختلافات الظاهرة، من هنا كان اهتمامه بالبهائية التي باتت تنتشر في تلك الفترة والحال ذاته مع البابية، وقدم سؤاله لمحمد عبده عن المعتقدين بالذات من منطلق اعتقاده أن المذهبين أو الديانتين منبثقتين عن الاسلام· الأكثر غرابة أن هناك من يعتقد، والحديث عن الباحثين، أن تولستوي أعجب بالإسلام لدرجة اعتناقه هذه الديانة؟ المقصود أن ما ورد في مجلة '' الأزهر'' بتاريخ أوت 1976 في الصفحة 774 بقلم عبد الودود شلبي، الذي عنون مقاله ب ''هل كان تولستوي مسلما؟''، في اعتقادي أن العنوان والمقال برمته أُريد به الإثارة أكثر من شيء آخر، على اعتبار أنه استشهد ببعض المقتطفات من نص الرسالة التي رد بها تولستوي على محمد عبده، ورد فيها على سبيل المثال قوله: ''إن الدين الذي أؤمن به هو دينك''، الأمر لم يكن أبدا على هذا النحو، فقد تم إخراج مثل هذه المقاطع من سياقها العام، الأمر الذي أفقدها معناها وفرض عليها معنى أراد به صاحب المقال الإثارة· المراسلات بين الرجلين المتوفرة لدى الباحثين لا توفر القسط اللازم من المعلومات من أجل التعرّف على التواصل الفكري بينهما، الأمر الوحيد المؤكد أن تولستوي عُرف بمعارضته للكنيسة الأرثودوكسية، من هنا سعى الكثيرون لاعتباره منشقا عن الكنسية، كل ما في الأمر أن تولستوي كان مفكرا ومصلحا، إلى جانب كونه أديبا من الطراز الأول، همّه الأول والأخير تخليص الإنسان من البؤس الواقع عليه بسبب الدين· لا بد من التأكيد على أن تولستوي كان يحلم بمعتقد جامع يقرب بين الناس أكثر من أي شيء آخر·