نقلت القنوات الإخبارية، مساء يوم السبت، صور مجموعة من كبار الضباط، على رأسهم قائد قوات المنطقة الوسطى، يحاولون إقناع المتظاهرين بالدخول إلى بيوتهم· وجاء الرد سريعا في شكل هتافات مدوية أن المعتصمين يرفضون هذه الدعوة، قبل أن يرحل الرئيس· وبعدها تسربت أخبار عن تحرك مجموعة من الدبابات من جهة ميدان عبد المنعم رياض باتجاه ميدان التحرير لإخلائه· وبسرعة العمليات الحسابية الذهنية، ذهب المحللون كل المذاهب في تقدير حجم الكارثة في حالة صدام بين القوات المسلحة والشعب· فُهم أن قيادة القوات المسلحة قررت إنهاء موقف الحياد، وأنها أرسلت ثلاثة جنرالات يحذرون الشباب من مغبة إصرارهم على احتلال الساحة الرمز· وفُهم أن مرحلة بداية النهاية قد بدأت، ولكنها ستكون أطول المراحل وأصعبها وأكثرها دموية· ذلك أن إخلاء ميدان التحرير لن يتم إلا بأحد خيارين: إما بتلبية مطلب رحيل مبارك، أو باستعمال القوة· وفي هذه الحالة الأخيرة فإن الجيش لا يحسن القمع بالقنابل المسيلة للدموع والضرب، ولا يحسن طريقة الكرّ والفرّ التي تتدرب عليها قوات الشرطة عادة· الجيش غير مهيأ لحفظ الأمن على طريقة الشرطة، ومن ثم فسيستعمل طريقته الخاصة، طريقة كل الجيوش: إطلاق النار بطريقة عشوائية تأتي على الكثير من الأرواح في وقت واحد، على أمل أن ينهي المعركة في لحظات· على الطريقة نفسها التي استخدمها الجيش الصيني في قمع انتفاضة تيان آن مان· ومع أن ناشطين كثيرين أكدوا أن وجود الجيش إنما هو فقط لحماية الشعب وأنه جزء منه، وأن بقاءه على الحياد إلى آخر لحظة لا شك فيه، فإن المعتصمين سارعوا إلى سد المنافذ وتكوين دروع بشرية أمام الدبابات·· وتوقفت الأنفاس وبلغت القلوب الحناجر·· في انتظار الكارثة· ولنلاحظ أن التحليلات المتعلقة بالجيش المصري بدأت تتغير· من تمجيده، من خلال التزامه الحياد منذ انطلاق الأزمة، إلى الحديث عن جيش لم يعرف عنه موقفا ديمقراطيا في حياته· وعلى الرغم من الحروب التي خاضها والبطولات التي سجلها، إلا أنه وقف دائما إلى جانب النظام الحاكم· ومع مرور الدقائق، ثم الساعات، انقشعت صورة دبابات الأبرامس وهي تحطم كل شيء في طريقها إلى ميدان التحرير· ما الذي أوقفها؟ ومن أوقفها؟ ما الذي حدث؟ بعض المحللين قالوا: إن وقت تدخل الجيش ضد المتظاهرين قد فات، وأنه لم يعد بإمكانه الإقدام على استعمال القوة على الإطلاق· لم يعد يوجد من هو قادر على إصدار أمر من هذا النوع، لا من جانب السياسيين ولا من جانب القيادة العسكرية، وبدرجة أقل من طرف الرئيس حسني مبارك: القائد العام للقوات المسلحة· ويعكس ذلك أن التجانس بين مختلف قيادات القوات المسلحة، من ناحية، وبينها وبين القيادات المدنية، لم يعد موجودا، إذ من السهل توقع أنواع عديدة من الخلافات في مثل هذه الظروف، وبالذات عندما يتعلق الأمر باستعمال القوة العسكرية ضد الشعب· وعند هذا الحد، يتحوّل حياد الجيش إلى ورطة تماثل ورطة النظام وورطة الثورة أيضا·· لكل ورطته· ورطة النظام أنه بدأ يستنفد حيله، وورطة المتظاهرين أنهم بدأوا يحسون بصعوبة موقفهم أمام نظام متصلب، ثم ورطة الجيش: إلى أي من الجانبين يقف؟ العسكريون يعرفون أن وقوفهم إلى جانب المتظاهرين يعني عدم الوقوف في منتصف الطريق، بل استلام السلطة وعدم التفريط فيها، وإلا فإن المؤسسة العسكرية هي من سيدفع الثمن في ظل النظام القادم، وستصبح مؤسسة غير موثوقة وسيطالها التهميش والتطهير، وسيعرف أكبر عدد من قادتها أنواعا عديدة من التطهير· وأما وقوفهم علانية إلى جانب النظام المتهاوي فيدخلهم، طال الزمن أو قصر، في مواجهة مع الشعب·· وتدور الدائرة في حلقة مفرغة· ولعل السبب الذي أمسك الجيش عن التدخل هي الأخبار التي تتحدث، منذ أيام عن مفاوضات يقودها نائب الرئيس، اللواء عمر سليمان، مع تنظيمات سياسية عديدة، بدأت مع لجنة الحكماء، واستمرت صبيحة يوم السبت مع بعض الأحزاب ومنها بالخصوص حركة الإخوان المسلمين المحظورة· السلطة تقول إنها لجأت إلى هذه الطريقة من أجل التوصل إلى صيغة حل تقدم إلى شباب الثورة ليقول رأيه فيها، والإخوان يقولون، كما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن عصام العريان، أحد قادة الإخوان، إنهم لا يشاركون إلا ليبلغوا إصرار الثوار على مطلبهم الأول والأخير: تنحي حسني مبارك· هذه المفاوضات ستعطي فسحة جديدة للجيش والمعارضة المنظمة والسلطة الحاكمة جميعا·· وسيتوقف على ما ستسفر عنه العديد من المواقف والتطورات· ولكن عدول الجيش عن التدخل ولجوء النظام إلى محاورة أعداء الأمس، من شأنه أن يبعث في نفوس الثائرين نفسا جديدا هم في أمسّ الحاجة إليه· سيشعرون أن انتفاضتهم هي التي قادت إلى هذه النتائج، وأن الحصول على نتائج أخرى رهين باستمرار حركتهم·· إلى الهدف المنشود: سقوط النظام·