1 مدخل: 1 1: قد يبدو الأمر بسيطا لو كنا بصدد كاتب تواتر ''احترافه'' لفن القصة القصيرة، كما عهدناه نظريا وتطبيقيا، في الأدب العربي، القديم أو الحديث أو في الأدب الإنساني العالمي، القديم والحديث، أيضا، في ثوابته ومتغيراته(1)· وقد تضيق إلى حد التلاشي مساحة المنزلقات النقدية التي لا تخلو منها أي قراءة ''نقد/ أدبية'' جادة تصف وتفسر وتؤول هذا العمل الإبداعي أو ذاك لو كنا بصدد ''معاينة'' نصوص إبداعية قصصية قصيرة، تواترت معياريتها من حيث الاتجاه الفني والفكري الذي يؤطرها: (واقعي رمزي رومانسي نفسي وجودي، الخ··)، ومن حيث ''التقنيات'' السردية: (طبيعة اللغة وظيفتها الشخصيات الأبعاد المكانية والزمنية، الخ··)، ومن حيث المواقع الأيديولوجية المتماثلة أو المتعارضة أو هما معا، الخ·· 1 2: إلا أن الأمر هنا يبدو أثناء العتبة الأولى للقراءة، على الأقل على غير ما ألفنا وتعودنا، وربما على نحو يعوم فيه أفق توقعاتنا، وإذ بقدر ما تستقطب هذه الأعمال القارئ داخل نسيج خطابها الجزئي: (القرية·· القرية) (الأرض·· الأرض)، مثلا، أو الكلي: (كل الأعمال)، إلى الحد الذي يصبح فيه من بين مشمولات خطابها، بقدر ما تجعله يتوجس خفة من التلاشي فيها، ليفقد بذلك مسوغ القول النقدي التحليلي عن قولها الإبداعي التركيبي ما دامت ''لا تعادل'' إلا نفسها· 1 3: ولكن مهلا·· فليست العتبة الأولى للقراءة ''النقد/ أدبية'' إلا أفق ''استطلاع'' أولي يقتضي المراجعة والتعزيز بما يعزز ''الاستكشاف''، وقد يرشده ويعمقه ليجعل منه محلا ''للاكتشاف'' الذي يغري بالتقدم والاستزادة في العطاء الفني الذي يخصب ويزكو كلما تعددت وتنوعت وتعارضت القراءات، خصوصا إذا تأتى التحكم في الانضباط النقدي، معرفيا ومنهجيا وتقنيا، كما يتضح ذلك -بمهارة لافتة- في طبيعة وبناء العناصر الفنية، الكلية أو المتفرعة التي تنتظمها المحاور الأربعة لفعاليات هذا الحدث الثقافي العربي، النوعي، المستظل بأطروحة: ''ندوة معمر القذافي كاتبا مبدعا''· 1 4: وفي هذا السياق، وعلى غير المألوف- مرة أخرى- فإن الأعمال الإبداعية المقترحة موضوعا لهذه الندوة، ليست من نوع الكتابة المؤطرة بمصفوفة من ''المعايير'' التي تسعى فيها اللغة المنتجة لها إلى البرهنة على مدى تحكم الكاتب في بناء العناصر والتقنيات السردية بخصوص ما تواتر التعارف عليه مرتبطا بمقال ومقام ''القصة القصيرة''، أو التي تسعى إلى المحاجة بشمول وعمق وأصالة ''المنظور''(2) (perspective) المركب، ثقافيا، اجتماعيا، سياسيا، حضاريا، لشخصية مسؤولة، مسؤولية استثنائية مركبة، فحسب، وإنما هي نوع من الكتابة الإبداعية التي بقدر ما تتأبى عن التأطير النقدي المعياري المغلق، بقدر ما تقترح على المتلقي استقبالها التلقائي، العفوي، الذي يعادل تلقائية وعفوية وحرية رؤية مبدع يدرك بمشاعره، ويشعر بمداركه حجم ونوع التناقضات والمفارقات الحادة المقلوبة، التي جعلت فضاء حياتنا الواقعية المكانية والزمنية أو ''الزمكانية''(3) (Chronotope) يتضخم ويتراكم في الكيان الهندسي، العددي، ويضيق بنا إلى حد التلاشي في استشعار ''الكينونة'' واستجلاء ''الهوية'' واستشفاف ''المعني'' في الانتماء الوجودي، بل التجذر الروحي في الأرض وثم الأرض· وفي هذا الإطار المفتوح على مفارقة ''الكيان'' الكينونة، لا يجد القارئ حرجا في التأطير النقدي لهذه الأعمال، على نحو مرن ومفتوح يجعله يعبر بها من خصائص نوع أدبي إلى آخر، دون تراتب تفاضلي، معياري، إذ يمكن أن نجد فيها ما يسوغ اقتراح وصفها ب ''القصة المقالية'' التي تؤطرها وتهيمن عليها ''وجهة نظر''(4) (P oint de vue)، كلية وثوقية، يتم تمثيلها والتعبير عنها من موقع نموذج ''الكاتب العالم بكل شيء''، الذي يهيمن صوته على كل ما عداه، حتى لو تعلق الأمر به هو نفسه، كموضوع للخطاب، ويمكن أن نجد فيها ما يسوغ اقتراح وصفها بالقصة ''الفكر/ شعرية'' أو ''الفكر/ انفعالية'' من حيث قوة ''وقع'' ''إيقاع''، خطابها التعبيري في استقطاب مساحات اجتماعية وإنسانية شاسعة مفتوحة للمتلقي للتعبير عن موقف أو صوت ''ملحمي'' يختزل رؤية العالم، دون أن يحيلنا -بالضرورة- على تقاليد وخصائص ووظائف وحيثيات ''الملحمة'' في الأدب القديم أو الكلاسيكي أو الحديث· 1 5: وإذا كان إطار ومؤطرات هذه الكتابات الإبداعية مهما، فإن الأهم منه، يتمثل في بنائها الفني لشبكة من المدارات وبالحقول الدلاليةب التي تتغذى من بعضها داخل العمل الإبداعي الواحد: (المدينة مثلا)، وعلى امتداد كل الأعمال الإبداعية المقترحة التي تتكامل كلها في التعبير عن موقف جريء، فذ، يستهدف التغيير الجذري لواقع الحياة الاجتماعية والإنسانية، وفق إرادة ذاتية، فردية وجماعية، خلاقة تسعى إلى تحرير الإنسان من نفسه أولا، ومن الإنسان ثانيا، ومن الأنساق والقيم الخاضعة لمنطق الجبر والضرورة مقابل توسيع مساحة منطق الاختيار والحرية، في حدود المقدرات المتاحة للإرادة الإنسانية، ثالثا· ولأن حقائق الأمور لا تدرك في الجوهر إلا بتجسيد ''النظائر'' و''الأضداد'' على مستوى الحياة العامة، العادية، وتشكيلها الفني والفكري العميق والمتميز، في أحد أبرز وأهم المفاهيم الفلسفية والمنجزات الجمالية ذات العلاقة المباشرة بإشكالية ''اللغة والمعنى''، وهو عنصر ''المفارقة''(5) (paradoxe)، الذي يعتبر من بين العناصر الفنية والفكرية التي تكاملت في إنتاجها -بمستويات متفاوتة- كل الأعمال الإبداعية التي يقترحها علينا القائد، المبدع، معمر القذافي· إن مدار القول في الأعمال الإبداعية المقترحة على القارئ من الموقع المركب، للقائد، الكاتب، معمر القذافي، يتمثل في إعادة بناء المجال ''الموضوعاتي''، (Domaines thèmatiques)، الأساس، المرتبط ب: ''المكان''(6)، ككيان مادي، متضخم، متوحش، تصادر فيه إرادة الإنسان في التوق إلى االمعنيب: (قصة المدينة)، وك: ''كينونة'' مشبعة ب ''المعنى'': (قصة: الأرض، الأرض- الموت)· وكما تكاملت هذه الأعمال في ''المكان، الكيان''، مقابل ''المكان، الكينونة''، فقد تكاملت -بالضرورة- أيضا، في الدلالة المفارقة للمكان، بوصفه ''استقطابا'' لتشبع وتجذر وحيوية الشعور بمعنى: ''الهوية''(7)، المركبة، التي اختزل التعبير عن الانجذاب إليها، من موقع الانفصال عنها، الشاعر، العباسي، المولد، (أبو تمام)، عندما قال: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل· ويمكن أن نتمثل ذلك في الأمثلة الخطابية التعبيرية الآتية: I - المدينة ضرورة مفارقة للاختيار: ''··المدينة حشر معيشي، وجدت الناس نفسها بالضرورة فيها، ولم يأت أحد ليسكن المدينة من أجل النزهة، بل من أجل العيش، والطمع والكد·· والحاجة·· والوظيفة التي تجبره على أن يعيش في مدينة''(16)· II - المدينة مفارقة للترابط الاجتماعي: ''·· وبطبيعة الحياة فيها، يصبح هدفها هو المنفعة والفرصة، وأخلاقها النفاق (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) (قرآن)·· وكلما تقدمت المدينة وتطورت وتعقدت وابتعدت عن الروح الودية والأخلاق الاجتماعية·· حيث سكان العمارة لا يعرف بعضهم بعضا، وتصبح الحيثية رقما فحسب، فلا يقال: فلان ابن فلان·· من قبيلة الفولانيين بل يقال: رقم كذا أنت الذي تسكن في الشقة رقم كذا، في الطابق رقم كذا، صاحب الهاتف رقم كذا والسيارة رقم كذا··''(17)· ج: المدينة مفارقة للكينونة ومصادرة للمعنى: (المدينة مجرد حياة دودية ''بيولوجية'' يحيا فيها الإنسان ويموت بلا معنى·· بلا رؤية·· بلا ترو·· يعيش ويموت وهو داخل قبر في الحالتين·· لا حرية في المدينة·· ولا راحة·· ولا رواق·· جدران زائد جدران، في المسكن، في خارج المسكن، في العمارة، في الشارع، في العمل·· لا يمكنك أن تجلس كما تريد أو تمشي في أي اتجاه تريد··) (18)· د: المدينة كيان حائطي متضخم يحجب الكينونة: ''في المدينة يحترمك الحائط أكثر من البشر، قد تستند إلى الحائط·· والحائط يرشدك إلى مكانك عندما تعلق عليه تعليمات وإرشادات وإعلانات يصعب جدا على إنسان ساكن في المدينة، أو لاف على المدينة أن يعطيها أو يسأل عنها وهو في حاجة إليها·· عليك وعلى الحائط، فالحائط فقط واقف في المدينة، ولكن الناس هي التي لا تستطيع أن تقف مع الحائط·· المدينة دخان·· أوساخ·· رطوبة·· حتى ولو كانت في صحراء''(19)· ه: المدينة مفارقة للزراعة، للأرض، للإنتاج، للجهد، للطبيعة الكونية(20)· و: المدينة مفارقة للطفولة السوية والمستقبل الواعد(21)· وهكذا فمفارقة الخطاب في ''المدينة'' تتسع أفقيا وتتجذر رأسيا، لتصبح رؤية فلسفية أو نظاما مفارقا لرؤية العالم، يتناص، ''تناصا'' (22) (Intertextualité) ''عكسيا''، مضمرا تفهمه بقوة السياق، مع ما عرف عند عملاق المسرح العربي المرحوم (توفيق الحكيم) (1889- 1987)، باسم: ''التعادلية مذهبي في الحياة والفن''، التي -التعادلية- يعرفها توفيق الحكيم بقوله: ''إن التعادلية في هذا الكتاب هي الحركة المقابلة والمناهضة لحركة أخرى·· كل قوة يجب أن تقابلها وتعادلها قوة·· التعادلية إذن تفسر الحياة الإيجابية بأنها ضرورة وجود جملة من قوى تتقابل وتتوازن مناهضة بعضها البعض في المجتمع·· التعادلية هي فلسفة القوة المقابلة والحركة المقاومة للابتلاعية''(23)· والحال أن خطاب ''المدينة'' مفارق لهذا النظام، المنتظم، المتكامل، المنسجم، وذلك لأن قوى ''الابتلاعية'' فيها بلا مكافئ أو مقابل، مما جعل توق بصر وبصيرة الكاتب معمر القذافي إلى الحياة الإنسانية الكريمة يتعلق بالمجالات المكانية، المكينة، المعادلة لممارسة الحرية والاختيار وتحقيق الشعور بالرضا والانسجام والتناغم خارج الاحتكام إلى ثقافة ''الحائط'' التي تجعل الحياة الإنسانية مجرد سلعة استهلاكية ومجرد علامة إشهارية، وتلك هي مفارقة المفارقات·