محمود درويش··· أدر لنا وجهك، لم يعد مقبولاً أن تدير لنا ظهرك، وتشد رحالك في الغياب، الموجع لنا، وللقصيدة التي ما زالت تواجه معسكراً من الأعداء، يأتوننا من كل جانب، فلا نجد من نغبطه في كل صباح مع فنجان القهوة الأول، ولا نجد مهارة القصيدة في اصطياد الحقيقة من براثن الوجع البشري· دعوتك المفتوحة للموت آن لها أن تتوقف، فلا تكن مثل الآخرين الذين يرتاحون في صمتهم، وقد عودتنا أن تكون حقلاً يهبنا أحلامنا المستحيلة، وأملنا في الثقافة التي لا تتنازل عن المستحيل، وبراءتنا التي تقاوم التلوّث، وطهرنا الذي يرفض الدنس· أدر لنا وجهك، فالشهداء ضاقوا بالشهود الذين لا يقولون شيئاً ولا يسمعون، ومشهد النكبة تحوّل إلى نكبات، والنكبات تحوّلت إلى كلمات ماتت، وتحوّل كل شيء إلى مسرح مجنون· الغضب يفترسه الحزن، والجلاّد يعلن مجد انتصاره على الضحية، والثقافة (النخبوية) لم تعد تتكئ على حلم أو حتى على همّ، يرفض الغيبوبة· الآن··· الآن فقط أدركنا سرّ توتّرك الدائم، وأنت تشتهي الحياة في زمن متصحر أكله اليباب، وتحمل أثقالاً تزيد أوزانها عن قدرة التحّمل· أدر لنا وجهك··· ونحن ندرك أن قافلة الموت تحمل ما لا تستطيع حمله قافلة الحياة··· لكن الإنسان الراحل فيها حين يتحول إلى قضية··· ووطن، لا قبر يستوعبه، فأرضه مشطوبة من ذاكرة العالم، والعالم مات فيه كثير من الطهارة حين صادق الرصاصة، وعادى القصيدة التي كانت مخزن عبقريتك، ومساحة حبّك التي ما زالت محفوظة في أفئتدنا· تعطينا موجاً من الإبداع· يتناسخ واحداً تلو آخر، ويتنزّه على ضفافنا، ويضع القلم على ورق القصيدة، ليسيل منه الحبر شعراً، على منابر الثقافة التوّاقة للتغريد خارج موجة السقوط، الذي تفرضه المرحلة التاريخية السوداء التي تعيشها أمتنا، وهي تراقب وقائعنا الشرسة· خطيئتك أنك قررت أن تدير لنا ظهرك، وترحل في الغياب، فلم يعد من يثير قلقنا بحزن نبي، وحرقة ثائر مكبّل بالأفصاد، وكأنك لا تريد أن ترى هزيمة الثقافة التي نراها، وقد هزمتها الظلمات المتكاتفة، من داخلها، ومن خارجها، ومن كل الجهات· وخطيئتنا أننا ما زلنا نحسدك على موتك الطريّ، الذي اخترته بنفسك، قبل أن تتحول أسواق عكاظنا إلى ميادين يتسابق فيها أدعياء النخبوية الثقافية لتسليم رايات سلطة الثقافة وكل القصائد ودواوين الشعر وقوائم المقالات والكتب، لأولي الأمر مقابل الاعتراف بجدارتهم وأحقيّتهم الثقافية في ثقافة السلطة، مهما كان نوعها· أخي محمود··· سلطة الثقافة لم يحن موعدها بعد في أمتنا، فأدر وجهك عنا··· واهنأ في مقامك، قبل أن ترى الشعراء يمتطون صهوة ''الفيسبوك'' يتسابقون، ويقدمون أنفسهم وزراء للثقافة··· في وطن يخلو من قبر نموت فيه·