''... والتعددية القبلية الانقسامية في المرحلة الحاضرة من تاريخ العرب هي الرهان الأكبر للمخططات المعادية لبلقنة المنطقة العربية وزيادة تجزئتها وشرذمتها من منطلق تلك التعددية الهادمة وما يتفرع عنها من طوائف ومذاهب وكيانات متقزمة. وتتكاثر في المرحلة الراهنة الدراسات والأبحاث الأجنبية التي تدرس المنطقة العربية بمنظار التكوين القبلي ومشتقاته وتكاثر مثل هذه الدراسات (غير المطمئنة) لا يعني أن يتهرب الباحثون العرب ودوائر البحث العربية من هذا الموضوع ويتركوه برمته تحت رحمة (أغراض) الآخرين، بل أن يتصدوا لدراسته من وجهة النظر العربية واعتباراتها الوطنية والقومية، فهذا هو الرد الوحيد الجدير بالمحاولة''. 1 هذا الكلام لم يكتب أثناء ولادة الربيع العربي بيوم أو شهر ولا أثناء المخاض ولا في فترة أعراض الحمل الأولى، بل كتب والفكرة مازالت حيوانات منوية تجوب خارطة العقل العربي، تبحث عن موقع حرث مناسب ولا يهم الوضعية فكلنا داخلون تحت دائرة ''أنى شئتم''. ما يروج له اليوم من تقسيم للجماهيرية العظمى إلى ثلاث دويلات فدرالية ومحاولات قيام دويلة قبطية ودويلة دلتا مصر وقيام دولة جنوب السودان والسعي الحثيث لقيام فيدرالية عراقية طائفية (شيعية وسنية وكردية) والحديث عن إحياء دولة جنوب اليمن السعيد والآتي أفجع. فإن كان الأندلس عرف مرحلة ملوك الطوائف، فالعالم العربي سيعرف طوائف دون ملوك تعيش متنقلة بين حرب داحس والغبراء إلى حرب البسوس دون الحاجة إلى يأجوج ومأجوج. الفقرة التي استفتحت بها المقال كتبها الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه المعنون ب ''التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام مكونات الحالة المزمنة'' الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثانية سنة ,1999 معنى ذلك أن الكتاب تم تحريره قبل ذلك بسنة أو سنتين على أقل تقدير. أعترف وأنا أقرأ في هذا الكتاب أنني عندما وصلت إلى الصفحة رقم 92 ذهلت بل صعقت، أعدت قراءتها فربما أسأت فهمها ورجعت إلى غلاف الكتاب لأتأكد من سنة النشر ولسان حالي يردد: ''ألم يقرأ أمين الجامعة العربية هذا الكتاب وقت صدوره وماذا عن مساعديه وهيئات الجامعة وغيرها من المنظمات العربية الحكومية والمدنية؟'' ألم يقرأ أي رئيس عربي هذا الكتاب وماذا عن مستشاريه ويعلم الله كم عددهم؟ وماذا عن دولة رئيس الوزراء؟ وماذا عن المخابرات العربية وما أدراك ما المخابرات العربية التي لا تفوت أي كتاب إلا كانت عليه رقيب عتيد (باستثناء كتب الجنس)؟ وماذا عن الأحزاب الإسلامية والعلمانية؟ ومراكز الدراسات والأبحاث والاستشراف؟ هذا الكتاب لو صدر في الغرب لأحدث زلزالا مازالت هزاته الارتدادية لحد الآن مؤثرة في البحث عن أسباب الأزمة وحلولها. المشكلة أن الدكتور محمد جابر الأنصاري أشفق علينا أو عرف بعجزنا، فلم يقدم لنا المشكلة وكفى، ولو فعل ذلك لكان أيضا مشكورا، لكنه قدم لنا حتى الحل إذ يقول: ''ومن دون أن نتأثر بما تقوله الدراسات الأجنبية عن القبيلة العربية، فإن جميع رجال الدولة العربية الحديثة ومواطنيها مدعوون للتأمل باهتمام فيما قاله مفكرهم ومواطنهم القديم عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته: ''إن الأوطان كثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة.'' ألا يفسر ذلك هذا الاضطراب السياسي المزمن في العالم العربي، حيث لا تمرّس بالسياسة إلا في ظل الدولة المستقرة (فالدولة مدرسة السياسة ولا سياسة خارج الدولة) فإذا كانت الدولة غير مستحكمة لكثرة القبائل والعصائب.. فمن أين سيأتي إتقان السياسة.. إلا بتأسيس المجتمع المدني؟''. لقد قدم الدكتور محمد جابر الأنصاري الحل وهو تأسيس المجتمع المدني، هذا المجتمع المدني الذي يخشاه النظام العربي أكثر من خشيته لإسرائيل (وقد أثبت الواقع أن الأنظمة العربية لا تخشى إسرائيل ربما لأنها حليفتها -أقول ربما -بل تخشى بعضها على أقصى تقدير). وأن خوف الأنظمة العربية الأوحد هو المجتمع المدني، لذلك عمد إما على القضاء عليه، مثلما فعل العقيد القذافي في ليبيا، أو عمل على دولنة /عسكرة المجتمع المدني وجعله بوق من أبواق السلطة (دون ذكر المثال فالتلميح يغني هنا عن التصريح). إذن، ما يحصل اليوم بما يسمى الربيع العربي إنما هو نتيجة منتظرة لما فعلته الدول بمجتمعاتها المدنية، فثورات الربيع العربي هي مولود نتيجة ''سفاح'' النظام العربي لمجتمعه المدني، فجاء اللقيط شرس، متمرد، يريد تفكيك النظام العربي المتجسد في الدولة والتبرؤ في الوقت نفسه من أمه المجتمع المدني وعقوقها، بل السعي لإقامة حد الرجم عليها باعتبارهما ثيب ولا بأس بالاستعانة بدولة عربية حرة وثلاث دول أجنبية كشهود على الزنا ولو أنه لم يشاهد أحد منهم مرود النظام في مكحل المجتمع. 1 - الدكتور محمد جابر الأنصاري كتاب: التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الاسلام مكونات الحالة المزمنة - المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط ,2 سنة ,1999 صفحة .921