أكاد أجزم أن الجزائر فقدت أكاديميا كبيرا وهرما حقيقيا· لقد توفي الدكتور محمد يحياتن الأربعاء 16 / 2012 05/ إثر نوبة قلبية، مات هادئا كالقطن، وكان موته خسارة للجامعة الجزائرية وللأدب واللسانيات والترجمة معا· وستذكر الجامعة، إن لم تكن كنودة، فضائله الكثيرة· لقد ظللت أكبر فيه حسّه الفني واللغوي الراقي· كان قارئا ذا ذائقة وموهبة لا تفوته الإصدارات الجديدة، سواء بالعربية أو باللغة الأجنبية التي كان يتقنها إتقانا، دون أي تبجح ودون أن يستعملها في غير مقامها· كانت فرنسيته عذبة وخجولة، وليست كفرنسية أولئك الذين لا تختلف لغتهم عن المسامير والأكياس السوداء والعلب الصدئة التي تجهل حقيقتها· كما عاش معتدلا في سلوكه اللساني وفي تصوراته· لكل شيء مقام، الأمازيغية والعربية والفرنسية والنظريات والمفاهيم· كان من تلك الفصيلة التي لا تدعي شيئا، متواضعا كالغيمة ومكدّا مثل العبيد القدامى· من قسم اللغة العربية إلى قسم الفرنسية إلى قسم الترجمة إلى المقالات والمحاضرات والمناقشات واللقاءات والندوات والترجمات الأدبية واللغوية· الحق أقول: إنني لم أعثر في دنياي على نماذج كثيرة تشبه محمد يحياتن أو تجاوره، ولابدّ أني لن أعثر على هذه الفصيلة لاحقا لأنها من أصداء ليلة القدر وظلال قوس قزح· تلك الفصيلة الاستثنائية التي حباها البارئ بضياء قلّما يتكرّر في تاريخ المجرات· كانت له صفات العالم الذي يعرف كل شيء ولا يعرف شيئا· هذه النسبية التي افتقدناها في حياتنا الجامعية والمعرفية هي التي كانت تلازمه دائما، وهي التي جعلته يشبه نفسه تماما، صغيرا وكبيرا، وكبيرا وصغيرا مثل الإنسان الذي يدرك حدوده· ولا أخالني إن قلت أكثر عن هذه المرجعية العلمية الفذة التي اشتغلت بمنأى عن الصخب والجعجعة، بتؤدة وحذق، رغم المتاعب التي كانت تحيق به· وكنت أعرف بعضها، تلك التي لها علاقة بالوجود والفلسفة والجامعة ومستواها ووضعية الأستاذ والباحث والمترجم والثقافة والعقل والنقاشات المضللة التي أرهقت حياتنا وأفسدت النبتة والحشرة· كان يحياتن مسكونا بحياء خرافي، وبكل ابتسامات الخليقة، تلك التي كان يوزعها على المحزونين والمؤلفات قلوبهم و''العباقرة الكبار'' والذين سقطوا من السماء بقدرة قادر، أولئك الذين كانوا وما زالوا يمثلون مجرى العلم ومرساه، بلا علم ولا ضوابط أخلاقية· لم يحدث أبدا، كما عرفته في علاقاتنا التي قاربت ربع قرن، أن طمع في شيء ليس له، كما لم يسء إلى السيئين والمسيئين والمهرولين الذين في قلوبهم مرض· كان مثل الصوفيين القدامى، يقرأ كثيرا ويكتب وما وجد الاستعلاء إلى نفسه منفذا· يجب معرفة محمد يحياتن -رحمه الله- لمعرفة نبله وثقافته والشخص الذي كان هو· إنه، بالنسبة إلي، أحد القلائل الذين تعتز بهم الجامعة الجزائرية علما وخلقا· ثم ذلك التواضع المهيب الذي جلّل حياته الأكاديمية الطويلة· ثم ذهب· في تلك الصبيحة هاتفني الأصدقاء: عبد الحميد بورايو وإبراهيم سعدي وحبيب السائح وتهاطلت المكالمات· لقد رحل الأستاذ· تذكرت ربع قرن دفعة واحدة· وتذكرت أيضا كيف آزرني يوم ''كنت أموت'' قبل أن أتحطم وأهيم على وجهي كالشبح، من مدينة إلى مدينة ومن مشقة إلى أخرى· لقد كان إنسانا على خلق أجدادنا النورانيين الذين طواهم الوقت وبقوا يعيشون في الحرف والذاكرة والعلامة· كم كان كبيرا· أشعر اليوم بأني فقدت كثيرا، وخسرت كثيرا رغم أني لم ألتق بيحياتن منذ خمس سنين، بيد أنه ظل يرفرف في مخيلتي، يتحدث ويبتسم وينكت ويناقش ويقدم العناوين الجديدة· ثم مرّ يوم ويومان وثلاثة ولم أجد في اليوميات أية تعزية· لم أعثر على خبر صغير في زاوية ما في صفحة ما، رغم أنه يستحق صفحات إكراما لروحه وتكريما لها· وداعا إذن أيها التواضع، نلتقي كما اليوم، كما في الحلم أو في ذكرى، أو في فيء حرف أكثر بهاء·