خرج الجزائريون، ليلة الخامس جويلية، بمشاعر متضاربة ومختلطة، بعد العرض الفني لفرقة عبد الحليم كركلا أمام رئيس الجمهورية. عرض طغت عليه اللمسة اللبنانية، وغابت عنه الهوية الجزائرية، التي اختزلت في لوحات سطحية. الجدل ما زال قائما أيضا بخصوص لباس المنشطة، ورمزية المكان سيدي فرج، وغياب مدعوين رسميين للمناسبة. كانت عقارب الساعة تقترب من العاشرة ليلا، عندما دخل رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة إلى مسرح الكازيف، يتبعه وزيرا المجاهدين والثقافة، اللذان كانا في استقباله عند المدخل الجانبي للمسرح والمطل على شاطئ سيدي فرج التاريخي. قبلها بساعة توافدت على المكان، شخصيات سياسية وتاريخية ودبلوماسية، فيما جلس الوزراء في المدرج السفلي بعيدا عن المنصة الشرفية للرئيس، حيث خصصت مقاعد لاستقبال شخصيات أجنبية كان يتوقع تلبيتها للدعوة، سحبت فيما بعد سريعا، قبيل دخول الرجل الأول للجمهورية الجزائرية، الذي توسط الحضور المكون من الوزير الأول أحمد أويحيى وعقيلته، مراد مدلسي وزير الخارجية، محمد مشاطي عضو مجموعة ,22 بلعيد عبد السلام رئيس حكومة سابق، خليدة تومي وزيرة الثقافة، شريف عباس وزير المجاهدين... وآخرين. الألوان الفرنسية تزاحم الألوان الوطنية بعد مقدمة تنشيطية طويلة وتمجيدية بصوت نزيه برمضان وزميلته، التي أثارت استفهام كل الجزائريين بطاقمها الأزرق والأبيض ووشاحها الصغير حول رقبتها؟ فيما كان نزيه بالأبيض والأخضر! مظهر أحدث هبة ''فيسبوكية'' لحد الآن، حيث اتفقت الآراء على أن لباس المنشطة مقصود، وإن كان غير مقصود، فهو غير مؤهل لهذه المناسبة. من جهة أخرى، تساءل المواطنون عن رمزية المكان والتاريخ، بالنظر إلى أن الخامس جويلية هو اليوم الذي استسلم فيه الداي حسين ووقع وثيقة الاستسلام، عكس ما ذهبت إليه الرواية الرسمية التي أكدت أن الجلوس على مشارف البحر المتوسط، حول رسالة صريحة للمستعمر للقول ''من هنا دخلت فرنسا ومن هنا رفع العلم الجزائري لأول مرة بعد إعلان الاستقلال''. ''أبطال القدر'': الدبكة.. لتمجيد الانتصار رسا قرار اللجنة المشرفة على أوبريت خمسين سنة استقلال، على عنوان ''أبطال القدر''، لكتابة مسيرة خمسة عقود من الحرية والتحرر، ولأجل هذا التزم كركلا بتقديم محطات مختصرة جدا، عن تاريخ الجزائر الطويل، وقصته مع المستعمر الفرنسي، حيث انطلق العرض من ,1961 عندما ظهرت أولى شعارات المنظمة العسكرية المسلحة ''أو آ أس''، التي نادت ب ''الجزائر فرنسية'' وعارضت قرار ديغول بمنح الجزائريين حق تقرير مصيرهم نهاية .1959 جسدت المنظمة في لوحة قصيرة ظهر فيها الممثلون بزي فرنسي عسكري، يتناقشون فيما بينهم، ويتباحثون أحقية الجزائريين في الاستقلال، وسريعا ما انتقل كركلا إلى لوحة ثانية، يظهر فيها مظاهرات 11 ديسمبر ,61 وخروج الشعب إلى الشارع والمواجهات العنيفة مع الشرطة الفرنسية. كما عمد المخرج إلى تصوير اللوحات نفسها في مشاهد خارجية، عرضها على ثلاث شاشات عملاقة شكلت جدارية خلفية للركح. كما اعتمد كركلا على هذه الشاشات ليقدم صور من الأرشيف تبين صحف فرنسية استعمارية وتناولها للخبر الثوري، وأخرى للعربي بن مهيدي ولقطة اعتقاله. لم تعمّر هذه المرحلة طويلا، إذ سريعا ما وجدنا أنفسنا في مرحلة الاستقلال، وظهور صورة كبيرة لأول رئيس للجزائر أحمد بن بلة، بينما اتفاقية إيفيان تطرق إليها من خلال استعراض لوثيقة الاتفاقية على الشاشة الكبيرة؟ في لمح البصر دخل الحضور إلى عهد البناء والتشييد، هواري بومدين وسياسته التأميمية، ليعود فيما بعد إلى أول اجتماع لحكومة الجزائر المستقلة، قدمها مجموعة ممثلين، لم يفصح أحد عن هويتهم، وترك الجمهور يخمن في هوية كل واحد منهم، ويكتفي بمتابعة الثورة التذكارية لهذا الاجتماع على الشاشة؟ إستعرض المخرج عبد الحليم إنجازات الثورة الزراعية والصناعية، برقصات عناصره الشابة، وبمشاركة عدد من الطاقات الجزائرية الشابة. تتابعت صور المسؤولين الأوائل على الجزائر المستقلة، وبعد بومدين ظهر رابح بيطاط، ثم الشاذلي بن جديد الذي ربط عهده باللغة العربية وسياسة التعريب والتعليم الأساسي، واحتفى كركلا بهذه الفترة بإبراز أهمية الحرف العربي في حياة الجزائريين. العشرية السوداء في عرض ''أبطال القدر'' كانت مجرد أشباح بيضاء، وأخرى برداء أسود ووجوه مقنعة حامت حول الحياة اليومية للجزائريين، ليتخلل الخوف أمل محمد بوضياف الذي صفق له الجمهور طويلا بمجرد ظهور صورته. بينما مرت صورة علي كافي دون رد فعل، أما شعبية اليمين زروال فكانت في الأذهان. كرونولوجيا سنوات الدم والخوف، في سيناريو كركلا لم تكن مضبوطة على معاناة الشعب، فكان جليا أن الهدف من ذكر العشرية، هو بلوغ المرحلة ''البوتفليقية'' التي كانت الغاية المثلى لكل هذا الاستعراض، إذ ارتكز العرض على منجزات رئيس الجمهورية الحالي، دورها في استتباب الأمن، المصالحة الوطنية، وتحديات جزائر الألفينيات. الدبكة تطيح بالرقصات الجزائرية على مدار ساعة ونصف من العرض، أظهر عناصر بالي فرقة كركلا، قوة بدنية ولياقة فنية كبيرة على الركح، حيث قفزوا وركضوا ومشوا، دون أن يظهر عليهم التعب. جسدوا مواقف درامية منذ اللوحة الأولى في مدرجات الجامعة، حيث جلسوا يصغون لدرس الأستاذ (بلقاسم زيطوط، مرفقين بعناصر البالي الوطني الجزائري الذين كانوا في مستوى الحدث) حيث أظهرت الراقصات والراقصين، قدرة على مجاراة مستوى كركلا الدولي. إختار الموسيقار اللبناني كمدخل للعرض موسيقى سمفونية ملحمية، ضبطت على صوت الشاعر بوزيد حرز الله، وهو يقرأ أبياته الشعرية: ''يا من كنتم بالدم أسطورة الفداء...''. كما سجل العرض ظهورا موفقا لكل من ماسي في الأغنية القبائلية، وكذا محمد لمين الذي أبان عن قدرة في الغناء بالعربية الفصحى، ناهيك عن أداء جميل لكورال شاب مكون من أصوات ''ألحان وشباب'' على غرار عبد الله كورد، أمال سكاك، سفيان زيقم... وآخرين.ساعة ونصف من العرض ولم تنجح فرقة كركلا في تجسيد رقصة جزائرية محضة، واكتفت المجموعة بحركات مألوفة ومعروفة، لا اختراع يبهر فيها، بقدر ما كانت قريبة إلى الدبكة اللبنانية، في وقفتها وإقدامها. الغريب أن كركلا لجأ في آخر العرض إلى فرق فلكلورية جزائرية (البارود غرداية، الزرنة العاصمة، لعلاوي سيدي بلعباس)، اختار أن يقدمها دفعة واحدة في نهاية العرض، ما ترك طعم المشهد غير متكمل، بينما كان الأجدر استغلال هذا الموروث لصالح العرض كله. إقتصرت الحياة الجزائرية على ركح الكازيف، على لوحة المقهى الشعبي الذي حامت حوله أشباح الموت في التسعينيات، حيث اشتملت على حوار قصير بلمسة فكاهية، لم تعمّر طويلا هي الأخرى.