يسألني الناس في الغالب: “لو وجب عليك أن تعود لبدء حياتك بتمامها من جديد، هل تفعل هذا أو ذاك؟ أي هل ستكرر الأخطاء نفسها فيما يخص الحب؟ أنا غير قادر على الإجابة، أما فيما يخص اللوحات المائية، نعم !".. هنري ميللر. في تقديمه لكتابها “عبر الزهور والأشواك... مسار امرأة" يقول الأستاذ أحمد جابر زوج السيدة زهور ونيسي “أعتقد اليوم أن رفيقة عمري قد تصالحت مع ذاتها قبل الشروع في كتابة هذا النوع من الآثار الأدبية".. عندما اطلعت على مخطوط المذكرات، قبل النشر، سألت السيدة زهور ونيسي إن كانت قد كتبت كل شيء، نظرت إليّ بابتسامتها الجميلة وقالت: “لا أعرف إن كان بإمكان أي شخص كتابة كل شيء، لكن كل ما يوجد بالكتاب دونته على مدار سنوات بكل صدق".. فهمت ردها الذكي، لكنني طرحت العديد من الأسئلة التي كانت تدور في رأسي وهي أجابتني عنها بشفافية وصدق.. ورغم أن تلك الأمور لم ترد في مذكرات السيدة زهور ونيسي، إلا أنها لم تغير من وقعها الرائع في نفسي كقارئة، ليس فقط لغزارة وقوة المعلومات التي فيها، ولا لأن الكتاب كما يتوقع الكثيرون - خطأ - من المذكرات، أنها قنابل موقوتة ستجيب عن الأسئلة الشائكة في مسار تاريخ الأمة.. ذلك الوقع مصدره شحنتي الصدق والمحبة اللتان في الكتاب، فمن الصفحة الأولى تجد نفسك تطلع على مسار إنسانة بالمعنى الحقيقي وترصد تجربتها، وورود سيرتها وأشواكها، لكن بأسلوب أدبي راقٍ، تحزن حينا لحزنها، وتفرح أحيانا لفرحها، وتتعرّف على شخوص حياتها، أولئك الذين أسعدوها، جرحوها، دعموا مسارها، تقاطعت معهم، اختلفت معهم.. فضاءاتها، نضالاتها.. وهذا ما يجعلك تتعرّف على سيرة ومذكرات مبدع يفتح دفتر يومياته لك لتطلع عليه.. لن أخفي في هذا المجال الصدمة التي أصبت بها عندما اطلعت على مذكرات طالب الابراهيمي مثلا، أو النكسة التي اعترتني في مذكرات الجنرال خالد نزار.. ولا عدم تفاجئي من المعلومات التي وردتني من صديق اطلع على المذكرات الموعودة للشاذلي بن جديد، والتي يبدو - حسبه - أنها ستكون كسابقاتها مجرد معلومات عامة عن الجذور الأولى للأسرة، أيام الشباب، والانخراط في مسار الكفاح، والعبقرية العسكرية للرجل في الغرب الجزائري.. لا قنابل موقوتة ولا أجوبة عن كواليس الخيبات ودسائس الغرف المظلمة للسياسة.. لا أعرف إن كنا مخطئين في الاعتماد على المذكرات لفهم التاريخ، لكن ما أعرفه هو أنه يجب أن نقتنع بوجود “علبة سوداء" لدى كل إنسان، مهما كانت صفته، والأهم من ذلك أن تلك العلبة السوداء لا يمكن فتحها على الملأ، لأنه مهما كانت قدرتنا على المصالحة مع ذواتنا، تبقى مسألة المصارحة لا ترتبط بالشخص وحده، وتلك حجة كافية ليزيد تشديد الغلق على علبته السوداء.. لذلك أعتقد أنه علينا أن ننتظر عمل المؤرخين لكشف أسرار ودهاليز التاريخ، ونستمتع بقراءة مذكرات إنسانية، تطلعنا على جذور الأسماء الكبيرة في المجتمع بأمكنتها وشخوصها، وحلاوة التجربة ومرارتها، كما فعل “هنري علاق" والسيدة زهور ونيسي وهي تعيد بناء اللحظة وتهندس جمالية عواطفها وزواياها، فتجعلك تعيش مع ابنة البنّاء الشغوف بالعلم منذ بداياتها مع العلم، النضال، الحب والحياة..