إلى الفنان الراحل محمد بوليفة لا يَعُودُ المغَنِّي إلى بَيْتِهِ في الغيوم الجميلةِ لا يقتني وجعا مِنْ محلّ الجراحِ الذي في البلادِ ولا يتسكَّع تحت ظلال البناياتِ في ليل “ألجي" الكئيبِ ولن يطرقَ البابَ.. بل يمتطي سرّ أحزانهِ ويغادر صوبَ البياضِ البعيدِ المدى لا يعود المغنِّي فيبقى الصَّدى ثمّ إذ يحضر العاشقون إلى حفله في المساءِ يراودهُمْ هاجسُ الموتِ في صمتِهِ صارخا: «ما قيمة الدّنيا وما مقدارُها إنْ غبت عني وافتقدت هواك" (1) فيظلون مجتمعين على وجع غامضٍ يسألون النهايةْ: أينَ غاب المغنِّي؟ مَنْ سَيُسْكِتُ أحزانَ عودٍ يتيمٍ يرمِّمُ أشواقَهُ؟ مَنْ سَيُلقي على حيرة الشُّعراء تراتيلَ أنغامِهِ؟ مَنْ يعيد إلى معبدٍ في القصيدة شيطانَ ألحانها؟ ثمّ يمضونَ .. يحترقونَ كما الأغنيَةْ لا يعودُ المغنِّي إلى بيتهِ في الصَّباحِ فينتحرُ العودُ في غرفةٍ زارها البردُ قبل الأوانِ وفارقها نغمٌ عاشقٌ وملائكةٌ أجَّجتْ نارَ أدْمُعِها حمحماتُ الفناءِ ومعزوفة مُبْكيَةْ هل يعود المغنِّي البهيُّ الذي علّم اللحنَ كلَّ الحروفِ وراقصَ في حفلة الشِّعرِ ما شاءَ مِنْ فتياتِ الكلامْ هل يعود المغنِّي.. وفي الأرض فيضُ المواجعِ يجري وفي البلدِ ال غادرتْهُ الأغاني سكونٌ مخيفٌ وجرحٌ يلوِّنُ وجهَ الجهاتِ ويرتقُ بالإبرِ الحاقداتِ قميصَ الكرامةِ يرشقُ بالألم المستفيقِ الحياةَ وينصب في كلّ منعطفٍ فزعًا لا ينامْ هل يعودُ المغنِّي؟ ومِنْ زمنٍ هادئٍ (2) أقبلَ السَّاحر البربريُّ الذي خبرَ الموتَ والحاضرَ المتمدّد قرب تخوم الغيابِ وحاورَ شوقَ البعيدين للزمن المترهّلِ والحاضِرِ المنتهَكْ أقبل السَّاحرُ البربريّ الخبير بما يفعل الراحلونَ لينقلَ صوت المغنِّي وآهاتِهِ للوجودِ ويرسمَ في أعْيُنِ العاشقينَ ابتسامتَهُ وتقاسيمَ عودٍ وهمهةٍ ترتبِكْ ها يعودُ المغنِّي بصوتٍ أجَشَّ عميق المعاناةِ يصرخ بالظلماتِ: «قمْر الليل اخواطري تتونّس بيه وإذا غاب اضياه يتغيثر حالي" فتعود إلى أفق الفنّ شمسُ مسراتهِ الزاهيةْ ثم يصرخ بالظلماتِ ويمضي إلى جنَّة الروحِ حيث رمالُ البلاد التي سكنتْ في نواياهُ واغتسلتْ بأغاني مواجده العاليةْ مدينة المشرية 27 / 11 / 2012 محمد الأمين سعيدي * جملة كان يغنيها المرحوم محمد بوليفة في مقطع فيديو وضعه سليمان جوادي في الفايس بوك. 1. مطلع قصيدة كتبها سليمان جوادي وغنّاها الراحل. 2. إشارة إلى ديوان سليمان جوادي “أغاني الزمن الهادئ". 3. من قصيدة “قمر الليل" لعبد الله بن كريو، غنّاها الراحل محمد بوليفة.