يتساءل كثير من الكتاب والسياسيين عن الأسباب التي تدفع الناس إلى المخاطرة بأرواحهم للوصول إلى الغرب على ظهر قوارب غير مضمونة· وكان حريا بهؤلاء جميعا أن يطرحوا أسئلة أخرى أكثر عقلانية مثل: هل ما زالت لدى الشباب مبررات معقولة يمكن أن تجعل بعضهم لا يغامر صوب البحر؟ لم تبق سوى قلة قليلة لم يداعبها حلم مغادرة المغرب العربي· تشير استفتاءات رأي كثيرة أن الأغلبية تتمنى الرحيل وتحاول بكل الأساليب بعدما استنفذت كل الطرق الشرعية· يشعر الناس أنهم غرباء في أوطانهم لذا فهم لا يهابون من الغربة بل لا يخيفهم حتى الغرق في البحر إذ أنهم يعتبرون أنفسهم غرقى على يابسة وطنهم· لأسباب ديمغرافية، يبدو أن معظم الذين يحاولون الهرب هم من الشباب، أما الحقيقة فتقول أنهم من كل الأعمار ومن الجنسين، من كل الأوساط ومن مختلف المستويات الثقافية· لا يستثني الوضع الطارد سوى المحظوظين· ما معنى أن يقبض على مغاربي في الستين من العمر على قارب هش في عرض اليم محاولا الوصول إلى مرسيليا سنة 2008 ؟ ما معنى أن نجد ذلك العدد الهائل من الأطباء المغاربيين في مستشفيات فرنسا؟ يهرب الناس من مجتمع يبدو لهم معطلا تماما، تسود فيه الخشونة بدل الكلمة الطيبة المحاورة، السيطرة الفجة بدل الكفاءة العاقلة،المواجهة بدل الوساطة، السماجة بدل الذوق ··· لا يغامر الناس بأرواحهم لأنهم فقدوا الأمل بل يخاطرون حينما ينتفي من أفقهم كل حلم· أثناء العشرية السوداء ، كان الجزائريون يحلمون بوقف العنف وعودة السلم، كانوا ينتظرون شيئا ! أما اليوم وقد تحقق معظم ذلك، فهم كاليتامى لا ينتظرون شيئا، فهم يعلمون علم اليقين أن برلمانهم سيصادق على كل رغبات الحكومة وأن التلفزيون الجزائري باق على العهد في لغة الخشب يعلك إلى يوم الدين و أن الحياة تزداد تعقيدا وغلاء وسرطان البطالة يستفحل بمتوالية هندسية·· هكذا يوصلهم الواقع المر القاتل لأحلامهم إلى قناعة وحيدة هي : لا مخرج للبلد·· سوى من المطار أو ركوب البحر سرا أو التعبير عن الغم برفع علم فرنسا كما فعل بعض تلاميذ ثانوية عقبة ابن نافع أخيرا وهي من أعرق ثانويات الجزائر العاصمة! لئن تفهم المرء سلوكهم ورده إلى مراهقتهم وبراءتهم وحتى سذاجتهم، فلن يفهم سبب إهمال السلطات الجزائرية لأبسط واجباتها· ألا يعرف الذين انتفضوا ضد هؤلاء شالأولادص دفاعا عن الكرامة والعزة والوطنية أن الفريق الجزائري الذي شارك و شرف البلد في بطولة العالم الأخيرة في كرة اليد قد ترك شبه عارِ، لم يتقمص سوى بذلة بسيطة تكرم بها أحد المحسنين الجزائريين المغتربين؟ ألا يستحق هؤلاء الشبان الذين يتقمصون الألوان الوطنية الجزائرية لباسا رياضيا في مستوى موهبتهم وإمكانيات بلدهم الذي يعيش في بحبوحة مالية؟ من المجرم في حق الوطن؟ تلاميذ مراهقون أم مسؤولون يتلاعبون بالرموز الوطنية؟ الأدهى و الأمر أن الدولة لم تجرّم مَن فشل في المغادرة سرا فحسب بل أصبحت العدالة تطارد الحلم من شالرؤوسص في حملات استباقية طالت من لم يهموا بالفعل بعد ؟ فكأنها تعترف رسميا أن البلد أضحى سجنا،يعاقب كل من يحاول الهرب منه· ألا يستحقون كل الاحترام، هؤلاء الشبان الذين أداروا ظهرهم للأصولية الإرهابية ونبذوا أفعال أمرائها المجرمين ولم يستجيبوا لإغراءات أئمة الشر على الرغم من وضعهم المأساوي؟ ألا يستحق كل مهاجر سري مكافئة عرفانا له وتقديرا على شجاعته وكرامته ورفضه للعنف الإسلاموي وحبه لأسرته إذ أنهم يهاجرون لإعانة عائلاتهم، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه·· هؤلاء أناس غير عاديين· تجرؤوا على ترك كل شيء وراءهم، عرّضوا حياتهم لأخطار جمة، قاطعين البحار، متسلقين الجبال وتائهين في الصحاري· يملكون قدرات وخصال نادرة تجعلهم يتحملون من الصعاب ما لا يتحمله معاشر الحكام ومريديهم· على الرغم من كل ما يقول عنهم السياسويون في الغرب، يكن لهم المجتمع الأوروبي في السر والعلانية كل الاحترام والتقدير· ألم ير العالم والمناضل الفرنسي ألبير جاكار في المهاجرين المغامرين نحو الغرب ميزات كثيرا ما يلام الفرنسيون على فقدانها وعلى رأسها القدرة على المقاومة حينما يتهاوى كل شيء؟ من المضحك والمحزن أن نقرأ خبرا كهذا اقال مصدر مسؤول في وزارة الشؤون الدينية الجزائرية مكلف بالفتاوى أنه لا يستبعد قيام رجال الدين إصدار فتوى صريحة تقضي بتحريم الهجرة السرية والتي يلجأ إليها الشبان طلبا لحياة أفضل في أوروبا وغيرها·ب هل يكفي التأثيم والتحريم لتنظيم الحياة؟ ألا تنتهج الدولة الجزائرية منطق الإرهابيين الذين يحاربونها ؟ لا يطمح هؤلاء إلى امتلاك القصور و لا خطف الامتيازات · لا يبحثون سوى عن لقمة عيش كريمة يستلونها من عرق عملهم و قليل من العدل والطمأنينة. لو جرب الحكام توفير بعض ذلك، لما هرب أحد وربما عاد حتى الذين غادروا من زمان· شصالعدالة والفتاوى من ورائكم والشرطة الأوروبية ومحتشداتها من أمامكم!صص إلى متى يبقى مستقبل أحفاد عقبة ابن نافع ضائعا في عرض البحار؟