لم يكن ابن حزم ومن خلال رسالته “طوق الحمامة" سوى فارسا للوعظ والإرشاد وسبيلا للمعرفة، وذلك بسبر أغوار نفوس الناس وغرائزها بعد رحلة طويلة من التجارب والمعاناة ومحاولة المعالجة، فقد عدد أخلاق النساء المحمودة والمذمومة وبين ميولهن المختلفة، وساعده في ذلك قربه منهن، فقد عاش في كنفهن صبيا وعاشرهن شابا وتشبع من أخبارهن وقصصهن بعد ثقتهن به، وعمل على المقارنة بين أخلاقهن وطبائعهن بأخلاق وطبائع الرجال، يقول ابن حزم: “ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن، مالا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في جحورهن ونشأت بين أيديهن ولم أعرف غيرهن، فلم أزل باحثا عن أخبارهن، كاشفا عن أسرارهن وكن قد أنسن مني بكتمان، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن ولولا أن أكون منبها على عورات يستعاذ بالله منها، لأوردت من تنبهُهن في السر ومكرهن فيه، عجائب تذهل الألباب" يستعرض ابن حزم الشخصيات النسوية أي البطلات بوصفهن يمتلكن ثلاثة أبعاد: فهن صادقات ويعاملن مثلهن من الرجال بدرجة متساوية من الاهتمام الذي يظهره بحياتهن ومشاعرهن، إنهن يتميزن بصفات كالوفاء والإخلاص، كما أنه أشار إلى اللواتي عرفهن بالتمتع بالمشاعر الصادقة وسمو الحب وخلوده حتى ما بعد الموت، كذكره لقصة أخيه الذي توفي بالطاعون وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، فما كان من زوجته إلا أن أصابها السقم الدخيل والمرض والذبول إلى أن ماتت بعده بعام. كذلك الموقف المؤثر لبنت زكريا بن يحيى التميمي المعروف بابن البر طال، التي عاجلت المنية زوجها فبلغ أسفها عليه أن باتت معه في دثار واحد ليلة مات وجعلته آخر العهد به وبوصله، ثم لم يفارقها الأسف بعده إلى حين موتها. إن ابن حزم يكرس الكثير من الاهتمام بالخصائص المميزة والسيكولوجيا والاهتمامات الخاصة بالنساء وبالأدوار التي لعبنها، ويبدو أنه يبجل الخصائص الإيجابية للنساء كما خبرها في زمنه والمزايا والقدرات الخاصة التي تمتلكها النساء ومع ذلك فإنه يظل صادقا لا جافا وقاسيا في نقده (النادر) لنزوعهن إلى الضعف وارتكاب المعصية. إن ابن حزم يرفض الرأي الشائع بين الباحثين الذي يقول إن الرجال أفضل من النساء في القدرة على كبت عواطفهم، فهو يعتقد بأن الرجال والنساء معرضين بصورة متساوية لارتكاب المعصية في الحب إذا ما أعطوا الوقت الكافي والفرصة المناسبة وتأثير الإغواء. كما يؤكد ابن حزم أن فضيلة الصلاح موجودة في الرجال والنساء، يقول ابن حزم: “الصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت وإذا قطعت عنها الذرائع أمسكت"، إن كون المرأة مصونة يجعل من الصعب عليها أن تصبح شريرة (فاسدة). ورغم أن عدد الرواة أكبر عند الرجال منه عند النساء، إلا أن النساء اللواتي عرفهن أو عرف قصصهن من بين معارفه أو محيطه الاجتماعي والتي يبدو عددهن غير -عادي- يزودُه بذخيرة كافية من الحكمة القيمة، ومادة الرواية التي لم يكن باستطاعته أن يجمعها لولا قربه منهن ومن بين المصادر النموذجية الذي يشير إليه بقوله: “ولقد حدثتني امرأة أثق بها أنها رأت..." إن رسالة “طوق الحمامة" يعد معلما لنفسية ابن حزم ولشخصيته العاطفية والاجتماعية وسيرته الذاتية، كما أنه صدى لمجتمع الأندلس وزمنه وما ساد تلك الفترة من واقع الحال الإنساني والأخلاقي والسياسي والاجتماعي ويستطيع المرء أن يتحرى من سير قصص الحب وأحوال العشاق المعاناة البشرية وأحوال المرأة ونظرة الناس لها، كذلك وضع الصراعات الطبقية والسياسية وما حدث من اضطرابات وفتن وثورات نال ابن حزم نصيبه منها.