منذ أن قدّم يسري نصر الله رائعته المقتبسة من رواية إلياس خوري “باب الشمس" (كان - 2003)، لم تحقق القضية الفلسطينية حضورا أكثر تألقا وبروزا من ذلك الذي ناله فيلم “عمر" لهاني أبو أسعد، حيث لم تتسع قاعة ديبوسيه، ثاني أكبر قاعات مهرجان “كان"، التي عرض فيها الفيلم ضمن تظاهرة “نظرة ما" للجمهور الغفير الذي استقبل الفيلم بحفاوة بالغة. حيث وقفت القاعة بالتصفيق لأكثر من 10 دقائق، تحية لفريق الفيلم وتفاعلا مع قصته التي تروي مغامرات ثلاثة شبان فلسطينيين يؤسسون فرقة فدائية لمقاومة الاحتلال، ويقومون بقنص أحد الجنود الاسرائييلين المكلفين بحراسة جدار الفصل العنصري، فتلاحقهم مخابرات الاحتلال بشتى أنواع القمع والدسائس والابتزازات، محاولة أن تستقطبهم للتجسس على كتائب الأقصى التي ينتمون إليها.. إلى جانب مرافعته الفكرية دفاعا عن الحق في المقاومة، سلط الفيلم الضوء على الأساليب المقيتة التي تمارسها مخابرات الدولة العبرية في حق المعتقلين الفلسطينيين، من التعذيب الجسدي والنفسي إلى الابتزاز الأخلاقي والجنسي. وكالعادة في أفلام صاحب “الجنة الآن"، لم تأت صورة المقاوم الفلسطيني نمطية أوصنمية، بل ظهر “عمر"، الشخصية الرئيسية في الفرقة الفدائية، في صورة إنسانية مؤثرة. فهو شاب عاشق، مثل كل أبناء جيله، لكنه يضطر يوميا لتسلق جدار الفصل العنصري للعبور من رام الله في قرية مجاورة من القرى الفلسطينية المحتلة، حيث تقيم حبيبته. وانخراطه في المقاومة لم يحد من إرادة الحياة لديه، فهو يتطلع للزواج والقيام برحلة إلى باريس لقضاء شهر العسل. لكن كل تلك المشاريع الحالمة تصطدم بدسائس مخابرات الاحتلال، التي اعتقلته ثم تعمدت إطلاقه بسرعة لتشويه سمعته وإثارة الشكوك من حوله بأنه متعاون مع العدو. واعترف هاني أبو اسعد، في حديث على هامش العرض الصحفي للفيلم، أن عمله هذا يحمل تأثيرات واضحة من المعلم المصري الكبير عاطف الطيب، وبالأخص فيلمه “البريء"، وذلك لجهة المنحى النفسي في نحت شخوصه الحائرة والممزقة في مواجهة القمع والاحتلال، ما يؤدي إلى التباس صورة المقاوم البطولية بشبهة المتعاون مع العدو، حيث لا تنكشف حقيقة الموقف البطولي ل"عمر" إلا في المشهد الختامي الذي يقوم فيه باستدراج ضابط المخابرات الإسرائيلي، موهما إياه أنه مستعد للتعاون معه، ويحتاج إلى تزويده بمسدس لاغتيال قائد كتائب الأقصى. ويقوم الضابط بتدريبه بنفسه على استعمال السلاح، وفجأة يذكره عمر بنكتة رواها له الضابط أثناء اعتقاله، مفادها أن الصيادين في إفريقيا يوقعون بالقرود من خلال وضع قطع سكر في حفر ضيقة، فيدخل القرد يده ويحكم قبضته على حبة السكر، فلا يستطيع إخراج يده من الحفرة ويبقى أسيرا إلى أن يقبض عليه الصيادون، لأن الجشع يمنعه من التخلي عن السكر لإنقاذ حياته. وفي اللحظة التي يستلم فيها عمر المسدس من الضابط الإسرائيلي، بعد أن شرح له هذا الأخير كيفية استعماله، يدير المسدس باتجاهه، ويسأله قبل أن يرديه قتيلا: هل تذكر كيف يصطادون القردة في إفريقيا؟..