1993، عام لا مثيل له في سابق أيام الجزائر المستقلة عام الصخب والعنف والدم، الرؤوس تطير من الأجساد، حقيقة وليس خيالا، الرصاص يلعلع ويخترق الأجساد، والموت يملأ كل الأمكنة، الصمت، السكوت، والرعب، والجنون هنا وهناك، ما الذي يحدث؟! كيف وصل الجزائريون إلى أعماق هذا البئر المليء بالحلكة والفزع؟ لا أحد يعلم، لا أحد قادر على أن يجيب، كل شيء تغير، تبدل، انقلب رأسا على عقب، الكلمات، العلاقات ومجمل السلوكات.. فاعلون جدد يدخلون الساحة، معسكر الخير ومعسكر الشر وما بينهما معسكر مسحوق، لا حق له في الوجود ملعون من المعسكرين. أصدقاء لي كثيرون قُتلوا، زملاء لي كثيرون قُتلوا، جيران وجارات ومعارف امتد الزمن بيني وبينهم قُتلوا كل يوم، أكاد كل يوم أنتقل إلى المقابر، جنازات جنازات جنازات، مسؤولون كأنهم حزانى يتظاهرون في المقابر وعلى عيونهم نظارات سوداء، ماذا يخفون.. حزنهم؟! خوفهم؟! قلقهم؟! أم.. نفاقهم، مثلا عندما قتلوا زميلي ميم انتقل عدد من المسؤولين إلى المقبرة، ووضعوا على وجوههم نظارات سوداء بشعة، وتلا الإمام خطبته، وانبرى واحد من أولئك الكذابين يعدد مناقب زميلي وشجاعة الصحافيين في مواجهة الإسلاميين البرابرة، وقال وراح يكرر.. سنهزمهم، سنهزمهم، ثم قال المجد والخلود لشهدائنا الأبرار وتحيا الجزائر، وأطلقت رصاصات في السماء وانطلقت حناجر البعض تشدو نشيد زمن حرب التحرير "من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا و«ما زلنا، مازلنا ثوار"، بينما والد زميلي كان هناك خلف الشجر ينحب ابنه في صمت مرير وعميق. وركب المسؤول المختفي وراء النظارات السوداء سيارته السوداء محاطا بحراس يلبسون نظارات سوداء في زمن وقح، ابن كلب وأسود.. ولم أبق بعد وقت وجيز سوى أنا ووالده المترع بالمرارة والوحدة وهو تحت التراب.. وعندما شبعنا من المكوث، تعانقنا وغادرنا المقبرة بخطى تائهة، بينما كانت الكلاب الضالة حولنا تنبح، ودارت محادثتنا عن اللحظات الأخيرة لكل واحد منا مع ميم. وفي الغد، أوبعد الغد كنت كذلك في جنازة أخرى.. وهكذا، وهكذا.. سيناريو يومي متكرر راح يفقد الموت هيبته وأهواله، صار الموت صديقا، وإن كان ثقيلا وباردا، لكن صديقا نرافقه ويرافقنا ونلتقي مع بعض كل يوم، كل يوم، ما أفظع 1993، غادرنا زوجتي وأنا رفقة ابنتينا الصغيرتين، الصغيرتين، انشراح وفيروز، شقتنا العلبة في شارع التقدم ببوفاريك، لم يعد ثمة من أمن، لم تعد الحياة تطاق، جاؤوا على الساعة الواحدة صباحا طرقوا الباب، بابنا وأبواب الجيران، لم نفتح، لم نكن في شقتنا العلبة في تلك الليلة المشؤومة وحدنا، كان لدينا قريب وزوجته وابنتهما الصغيرة كذلك، الخطوات صاخبة، صاخبة تحمل الموت في أصواتها، القريب وزوجته وابنتهما الصغيرة كانوا نائمين في الهووول.. بقيت صامتا وساكتا عندما سألتني زوجتي فاطمة، ماهذا؟! ما هذا؟! هم؟! أنظر إنهم هم؟! رجوتها أن تبقى هادئة، أن لا تتحرك، أن تصمت.. هل النجاة في اللاحركة، الصمت والهدوء؟! لم يكن أمامي غير السيطرة على الأعصاب وانتظار لحظة ما، لحظة تشبه المعجزة للخروج من هذا البئر المهووس بالكوابيس، طرقوا، ارتفعت أصوات هجينة، كانوا في عجلة من أمرهم، خرج إليهم جارنا في الطابق الأسفل، أخذوه، كان يصرخ.. كم من الوقت مر؟! لا أستطيع استرجاع كم من الوقت قد مر، لأن تلك اللحظة فقدت هويتها الزمنية، لم يعد الوقت حيا، كل شيء تجمد، انقرض، زال في بئر دامسة من العدم. قريبنا كاد من شدة القلق والبانيك يتجه رأسا إلى الباب ليفتحه، لكن زوجته، أجل، زوجته المدعوة عبلة، وضعت ذراعها السميك على عنقه وأغلقت بيدها فمه وشلته عن الحركة إلى أن ابتعدوا وصارت خطواتهم بعيدة عن الباب.. باب شقتنا، وما إن سمعنا أزيز العجلات الحاد حتى هرع قريبنا إلى التواليت يتقيأ بصوت بائس، مزعج ومسموع. 1993 وشم أحمر في الذاكرة، لحظة غارقة في عتمة مجنونة وخطوة كبرى نحو جهنم الرعب والإقتتال المريع. غادرنا بوفاريك في اليوم الموالي، ورحلنا والأسى يعصرنا إلى البيرين، بلدة ماكثة في النسيان، عراء الطبيعة، الجفاف، الحجر والعقارب. ومع ذلك فلقد أحببناها وزوجتي من جديد.. مكثت في منزل عائلة فاطمة بعض الأسابيع، ثم وجدنا شقة للإيجار، كانت واسعة وتكاد تكون مريحة في الطابق الأول من تلك العمارة شبه المعزولة والمحاطة بالخلاء الموحش، لكنها كم كانت مليئة بالنور والهواء الجاف.. كانت رحلتنا الحزينة إلى البيرين في عز ربيع 1993، انتقلت فاطمة تدرس في ذات الثانوية التي عرفتها وهي تلميذة.. وأضحيت أنا أشتغل الذهاب والمجيء بين الجزائر العاصمة والبيرين كل نهاية وبداية الأسبوع.. هو هذا قرن الربعطاش.. حيث الإبن ووالده، والأخ وأخوه ودم الأبرياء يستباح.. كان يقول لي، الطاهر سائق سيارة الأجرة في ذلك الصباح البارد من شهر نوفمبر، ونحن متجهان من البيرين نحو العاصمة.. الأشخاص خلفنا كانوا غارقين في سكونهم ومتدثرين في قشاشبهم، الطاهر صديقي الطاكسيور، قط بسبعة أرواح.. لقد نجا أكثر من مرة من اشتباكات اندلعت في الطريق بين عصابات المسلحين وأفراد الجيش الباتريوت.. يروي الحكاية تلو الأخرى، وكأنه يستلذ استعادتها دفعا للخوف ونحن نسير نحو العاصمة تحت جنح الظلام الجاثم فوق الطريق، لكن فوق أنفاسنا كذلك.. والطاهر، صاحب السحنة السمراء، وعيني النسر، والوسامة الهلالية والصوت الجهوري والذاكرة الفياضة كالسيل، واللسان المطلق والفصيح، يتحدث، يتحدث، يتحدث.. الساعة تشير إلى السادسة والنصف، نحن نقترب من وادي الشفة، تناولنا قبل ذلك القهوة في مقهى محطة البنزين بالمدية، الصقيع يلسع الوجوه.. أدخن سيجارة وأتأمل تلك الوجوه الصامتة والكئيبة والمسكونة بالمجهول.. أكثر من مرة نزلت الجماعة المسلحة على المقهى بحثا عن رؤوس معروفة تحدث بها ضجة إعلامية.. ألم يختطفوا من هذه المقهى زميلان، كان مراسلا من المدية للجريدة الحكومية "المساء؟!.. ويستطرد الطاهر في الحديث عن حكاياته مع العسكر والمسلحين ومغامراته العجيبة التي يقشعر لها في بعض الأحيان جسد الإنسان، حكايات حدثت له على طول الطرق المؤدي من البيرين إلى العاصمة أو من الجزائر العاصمة إلى البيرين، إلى حد الصحاري.. وخلال الحواجز المزيفة التي ينصبها المسلحون ما بين البرواڤية وسوغان، وما بين السواقي وثلاثة دواوير وعين بوسيف، وبين عين بوسيف وشلالة العذاورة، أو بين قصر البخاري وبوڤزول.. ويذكرني بمجزرة ثكنة بوڤزول التي ذبح فيه المسلحون حوالي سبعين نفرا من الجنود ونحن نقترب من بوفاريك مجددا.. كنت في ذلك اليوم غير بعيد عن بوڤزول.. غير بعيد. عند الثامنة صباحا، نزلت غير بعيد عن دار الصحافة... حيث التقيت مع زميلي في جريدة "الحدث"، فارسي، اتجهنا نحو النادي، تناولنا قهاوي ودارت محادثتنا عن وزير الدفاع وزملائه الذين انقلبوا على الديمقراطية. وفي المساء دعاني إلى بار العباسية بضواحي سيدي فرج، قلت والدهشة بادية على وجهي (أين؟!) قال إلى بار مريم العباسية، هي من مدينتك ألا تعرف العباسية، أبديت جهلي.. لكن في ذلك المساء، عرفت أن مريم العباسية ليست سوى تلك الفتاة الشقية.. إبنة الروكا التي اختفت مع أمها منذ ثلاثين سنة تقريبا.