-1- يستطيع أديبٌ أنتج عملا إبداعيا سواء أكان قصيدة أم رواية أم جنسا أدبيا أو فنيّا آخر أن يشرح للقارئ ما لم يستطع القارئ أن يسبر أغواره، أو أن يدرك مقاصده، أو أن يتفهم معانيه قصدا أو قصورا؟ وهل يستطيع المبدع أن يمرّر في هذه الحالة نسخةً طبق الأصل لكل ما يريد أن يقوله، وفقط لكل ما يريد أن يقوله هو، دون زيادة أو نقصان، رافضا بذلك رفضا مطلقا ما يمكن أن يفهمه القارئ، أو ما يستشفه من معانيه، أو ما يدركه من مقاصده؟ وهل للقارئ الحق في أن يسيء فهم النص الأدبي، أي يسيء به الظنّ، بما يفتح النص على مكنونات لم تكن في حسبان المبدع؟ وهل كلُّ سوء فهمٍ للنص الأدبي هو خروج بائنٌ عن مقصدية الكاتب؟ لا شك أن النص الأدبي، ومنذ أن أجاب أبو تمام إجابته المشهورة: ولِمَ لا يفهمون ما يقال؟ عمّن سأله السؤال المشهور كذلك: ولِمَ لا تقولُ ما يفهم؟، لا زال يثبت مع الوقت أنه قادر، معتمدا في ذلك على قرائه، على تغيير وجهات الكاتب عن مقصدياتها الأولية إلى مقصديات أخرى لا ترتبط بالضرورة بالمعنى الذي يريد المبدع أن يكون في بطنه هو وحده لا في بطن القارئ مهما كانت الأحوال. وربما أسست إجابة أبي تمام لإشكالية الفصل المنهجي بين مقصدية الكاتب وما سيسمى لاحقا بإنتاجية النص التي تحركها رؤية القارئ الذي يسعى إلى فهم النص وفق إمكاناته الفكرية والمعرفية من دون المرور ضرورة بما رسمه له المؤلف من محددات يعتقد أنها توصله مباشرة إلى بطن المعنى. ثمة سوءُ ظنٍّ مؤسّسٌ إذن، ومنذ أن كان الإبداع إبداعا، بين منطلقات المبدع وبين مآلات ما يصل إلى القارئ من معانٍ متخمةٍ بفائض المعنى ومغلّفة بما تقترحه الجماليةُ في تغيّر أحوالها وألبستها عبر العصور، من تعليب وتزيين هدفهما الإبهار والتخطيء. ولعل سوء الظن هذا هو المولّد الحقيقي للنظرية النقدية بوصفها مشروع إجابة عن مساءلات القارئ الحائر في توصيف معاني المبدع وترتيبها في فهمه للعملية الإبداعية وغوامض مُحرِّكاته الداخلية التي لا زال يعتقد أنه يستأثر بها لوحده دون الناقد، وبوصفها كذلك فارقا معرفيا يُخضع النص إلى منطق القارئ بعدما كان الكاتب يُخضع القارئ إلى منطق النص. -2- لقد كان النقد الأدبي في كل ما أنتجه من سلطة معرفية، نتيجةَ خلافٍ جوهري بين المبدع الأديب وبين القارئ استطاع من خلالها هذا الأخير تحويل المركز الأساس الذي هو النص والذي طالما كان مِلكا للمبدع وحكرا عليه، إلى بؤرة معرفية أخرى تتباهى بنرجسية القارئ الأنموذجي في تسطير المنحى العام لدلالات النص وإحصاء تحويلاتها النحوية والألسنية. وكثيرا ما تحوّل سوء الظن إلى سوء فهم منهجي يؤدي بالنص إلى الدخول في رؤية للقراءة خارجة تماما عمّا كان يريده المبدع. وكثيرا ما حُرِمَ المبدعُ حقّه في إبداء رأيه الصادق حول الظروف التي أحاطت بإنتاج نصّه نظرا لعدم إعطائها أهمية من طرف القارئ المشغول في تمركزه المعرفي بظروفه الخاصة في التعامل مع النص. ولعله لهذا السبب قليلا ما نجد أديبا أو شاعرا أو روائيا يتعرض لعمله بالنقد كما لو أنه أبو تمام السائل وكما لو أنه أبو تمام المجيب، فغابت بذلك فرصة سماع رأي المبدع قارئا أولا لنصوصه الإبداعية عن المدونة الإبداعية العربية المعاصرة إلا ما ندر. قد يقتل الشرحُ النص. وقد تحدّ المناسبةُ من أفق التخييل. وقد تنبني أسوارٌ سميكة مغلقة حول النص بما يحاول المُبدعُ أن يلصقه بنصّه أو يدخله داخل أسواره السميكة التي بناها بنفسه أو التي ترك القارئ يبنيها بصورة متعمدة أو غير متعمدة في غفلة منه أو على حين غرّة، لأنه يعتقد، إذا ما تحقق من علوّ أسوار نصه على من لا يريد أن يصلوا إلى خدره أو يدخلوا إلى درّة قصره، أنه بتصرفٍ كهذا يقطع الطريق أمام كلّ تأويل قد يُخرج النص عن أصله والنهر عن مجراه، فيحقق بذلك ما يريده لنصّه من دورٍ يكون قد رسمه أثناء الكتابة، وخطط له قبل الكتابة، وفكر فيه مليّا لحظة ميلاد الفكرة في رأسه المنشغلة بهموم ما يعتقد أنه شغله الشاغل ومحركه الدائم الضامن لصيرورة الحرف والعاكس لأطروحات موضوعه. غير أن المبدع، وهو يحاول ضبط الرؤية النهائية، رؤيته هو على الأقل، لما يجب أن يكون عليه نصه في مرآة القراء جميعا والقراء النموذجيين خاصة، إنما يؤسس من غير قصد مسبق ما سيراه القارئ كبرا من لدن المبدع يحاول أن يمارس سلطته الإبداعية على القارئ الذي سيكون مجبرا في هذه الحالة على تقبل نصه وكأنه وصفة دواء لمرض لا يرى القارئ أنه يعاني منه أصلا، وهو مرض عدم تمكن القارئ من سبر أغوار ما يبثه المبدع في نصه من مقصديات تتعالى بما فيها وما ليس فيها على القارئ فتجعل منه قارئا قاصرا على إدراك هذه المقصديات وما يمكن أن يكون وراءها من عقد تكشف، إذا ما اكتُشِفت من طرف القارئ، عمّا يمكن أن يعتري نصه من عيوب، وعما يمكن أن ينتج عن رؤيته الباطنة من مثالب. -3- ثمة تحايلٌ متعمّدٌ في السؤالين، سؤال القارئ (النموذجي، لأن سؤالا كهذا لا ينتج إلا عن قارئ نموذجي) الذي يريد أن يحرج المبدع ويدفعه إلى كشف أعزّ ما يمكن أن يملك من خصوصية يعتقد أنها ممّا لا يستطيع بأية حال من الأحوال أن يُطلع عليه القارئ، وسؤال المبدع (النرجسيّ، لأن إجابة كهذه لا تنتج إلا عن مبدع أنانيّ) الذي يريد أن يردّ إحراج القارئ من خلال إعادة كُرَة السؤال وكَرّتَه بما تحملانه من طميٍ معرفيٍّ وسوءِ ظنٍّ مُبيّتٍ إلى مرمى القارئ النموذجي فيكون بذلك قد أعاد له محمولات سؤاله كما هي لتنتهي معركة السؤال والجواب بينهما كما لو أنها كانت مجرد ألعوبة أخلاقية تمت في زحمة سوق أدبيٍّ كالمربد أو عكاظ أو غيرهما من الأسواق التي تعجّ بالطامحين إلى الالتحاق بحرفة الأدب لكثرة ما يعتلج في صدورهم من أسئلة لا تجد من يجيب عنها. أسواق تختلط فيهما البضاعة الإبداعية بالبضاعة النقدية فيلتقي أصحابها التقاء طائرا بين كأسين أو سؤالين أو بيتين فيتركان أثرهما الحاد في صفحة النقد التي ربما غيّرها أحد الرواة، رواة الأدب والشعر، ورواة أخبار الرجال ومزيّفو المقولات الإبداعية والنقدية، لا لشيء إلا للسخرية مما يعتقد المبدعُ الأصلي أنه أصَّل به لمقولته لتبقى، وكذلك للسخرية مما يعتقد القارئ الأصلي أنه أصّل به لسؤاله النقدي ليبقى. «لماذا لا تقول ما يُفهَم؟ ولماذا لا تفَهمُ ما يُقال؟" إنهما نفسهُما السؤالان اللذان يخضعان في هذه الحالة إلى إرادة طرف ثالث، ولنسمِّهِ تحاملا المُؤثّر اللاحق، فيأخذ ممّا في خزانتهما الباطنة من طميّ كَبَتَهُ السائل والمجيب عمداً وأخرجه إلى ملء المغامرة الإبداعية بما تحمله من جذوة نقاشٍ قد يُخرج مقصدية المبدع الأولية من مغلقاتها ويجعلها تقيةً ودليلاً إما للتشهير بالمبدع الذي لم يدرك مغازي سؤال القارئ وفخاخه التي بدأت تتفجّر في وجهه، وإما للتشهير بالقارئ (النموذجي) الذي لم يدرك كُنْهَ النصّ الذي زرعه المبدع روحاً ثمّ وزّعها في ثناياه لا يستطيع أن يجمع صورتها النهائية غيره. وفي كلتا الحالتين سيكون للمبدع، كما للقارئ، شيء مما كان يسعيان إليه في البداية من الالتحاف بلحاف سوء الظن، متوارين به وراء ما يجب أن يكون للنص من تلميح لا بالواضح فيُزرِي ولا بالجارح فيؤذي، وإنما بالوقوف الواعي في المنزلة بين المنزلتين يكون فيها لسوء الظن دورٌ أساسٌ في تعديل مقصدية المبدع المتأتية من تعالٍ نرجسيٍّ، وفي تصويب سوء ظن القارئ الناشئ من تعالٍ معرفيّ بما يحملانه معا من صورة للذات المبدعة وكأنها ذات سائلة ومن صورة للذات السائلة وكأنها ذات مبدعة، فيكونان بذلك قد أسّسا لأهمية السؤال ودوره في ترسيخ الرؤية الأكثر عمقا في المطارحة الأدبية بين المبدع والقارئ. وهي مطارحة مبنية على سوء الظن الذي لم يفارق مسارها منذ أن كان الإبداع إبداعا. ألم تكن عبقرية المتنبي محل بحث نقديّ مستفيض تمكّن صاحبهُ (القارئ النموذجي) من استخراج عيوبه وإحصائها وعدّها في مجلّد كامل ربما لا لشيء إلا لتكتمل بعمل كهذا عبقريتُه في ظن القارئ فيكتمل بعدُها الإنساني القابل لأن يخطئ وهو يصوغ الشعر حكمة خالدة؟ ألم يطرح أبو العلاء المعرّي إشكالية نقدية في غاية الدقّة عندما وضع أبا تمام في مرتبة الحكيم ووضع البحتري في مرتبة الشاعر، وذلك على الرغم مما يمكن أن يُستشفّ من باطن المقولة من إمكانية وضع أحدهما (الشعر أم الحكمة) في المقام الأعلى والآخر في المقام الأدنى؟ ألم تكن مقولة البحتري "جيّد أي تمام أحسن جيّدي ورديئي أحسن من رديئه" نوعا من المواربة النقدية الذكية لتفادي انهمار السؤال الجارح من طرف الناقد سيّء الظّن في عمق المساءلة النقدية؟ ألم تكن عملية تبادل الأدوار بين السائل السابق (أبو تمام) والمجيب اللاحق (البحتري) يلعب فيها الطرف الثالث دور المحاور العقلاني (المعرّي) غيرَ صورةٍ لما يجب أن يكون عليه الإبداع في حالته الأكثر تماهيا مع الذات الإنسانية وهي تسيء الظن بما تراه في مرآتها من صورة ربما بدت مشوّهةً في جزء من أجزائها أو في طرف من أطرافها، كأنما الإبداعُ لا تكتملُ صورتُه النهائية إلا بتدخّل القارئ المتأخر لا يلوي إلا على إضافة ذرّة من المثالب على ما يعتقد المبدع أنه الجمال الكامل بعينه والكمال الجميل بصورته؟ -4- ربما لم يكن للخطاب النقدي المعاصر الذي شهده القرن العشرين بمختلف مناهجه التاريخية الاجتماعية والنفسية والألسنية والبنيوية والتفكيكية وغيرها مما تفرع عنها تفرعا غريبا وسريعا أنهك الشجرة الأصل للممارسة النقدية وغيّب تواتر حضورها الواضح من خلال تغييب المقولة النقدية في سلسلة سلالتها المذهبية، غيرَ سوء ظنٍّ رهيبٍ استولى في أشكاله وفي تمظهراته وفي طرائق عرضه لأفكاره التي يدافع عنها على ما كان جديرا بالكاتب المبدع أن يدافع عنه بمجرّد قلبه لسؤالٍ بدا جوهريا لأبي تمام المُجيب لأنه كان يخفي في عمق ما كان يختزنه من محمولات غير مصرّح بها من سوء ظن رهيب غذّى طموحات أبي تمام السائل، ولا يزال يغذي طموحات النظرية النقدية في تعطشها الدائم للوصول إلى مرآة الذات المبدعة، وفي بحثها المتواصل عمّا يمكن أن تخبئه من تشوّهات قد تبدو لبعض القراء في مكان معين أو زمن معين، لكنها لا تبدو لكلّ القراء في كل الأمكنة وفي كل الأزمنة.