نزول الوزير الأول عبد المالك سلال، على المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية بقصر الثقافة، استنفر له طاقم أمني مشهود، وتضييق الخناق على أصدقاء الفعالية من الجمهور الذي كاد ألا يدخل القاعة الكبيرة، لولا إصراره على البقاء، وتمسكه برغبة الإصغاء لمعزوفات ألمانياوجنوب إفريقيا وبلجيكا. جلس عبد المالك سلال الوزير الأول، رفقة وزيرة الثقافة خليدة تومي ووزير منتدب مكلف بالشؤون المغاربية والإفريقية عبد المجيد بوقرة، إضافة إلى زهرة ظريف عضو مجلس الأمة، وطاقم دبلوماسي معتمد بالجزائر، في الصفوف الأمامية للقاعة الكبيرة بقصر الثقافة، بعد أن حضرت زيارته بشكل استثنائي أثار استغراب الوافدين إلى المهرجان. خاصة وأن سلال لم يغارد مكانه إلا بعد تسليم درع المهرجان للفرق المشاركة. فيما استقرأ البعض ظهوره في محفل فني ثقافي مباشرة بعد أمسية تأبينية للشاعر السوري سليمان العيسى، بأنها محاولة لتدارك كبوته مؤخرا أثناء إشرافه على ندوة حول الدخول المدرسي 2013 / 2014. الألمان كعادتهم كانوا في الموعد وعند السادسة والنصف بالتحديد، اعتلى الخمسة المنصة، لتقديم برنامج موسيقي مستوحى من الريبتوار العالمي الكلاسيكي، بدءا بموزار ووصولا إلى جيسكينغ. "مجموعة 1.4" تشكيلة من العازفين الشباب على آلات هوائية مثل "الكلارينات" و«الهوتبوا" و«الباسون" و«الكور" يتبعون قائدهم توماس هوب على آلة البيانو. قرروا العمل سويا بعد تعرفهم أيام الدراسة الجامعية، واختاروا أداء مجمل الأعمال الكلاسيكية والسعي لاكتشاف أخرى جديدة ألفت في القرن 19 وبداية القرن العشرين، التي لم يروج لها كغيرها من المعزوفات. وهي المهمة التي جلبت إليهم جمهورا واسعا من مختلف الأجيال. مع جنوب إفريقيا، كان الاكتشاف بطعم مختلف عن العادة، وبعيدا عن الريتم الإفريقي السريع الصاخب والراقص والشاكي المعبر عن آلام العبودية بالصوت والجسد، إلا أن مجموعة "غا رونا سترينغس" حملت إلينا نوع آخر من التعبير الموسيقي، يقترب إلى الموسيقى الكلاسيكية ويبتعد عن الأداء الفلكلوري المتوارث جيل بعد آخر. "غا رونا" فرقة متخصصة في الآلات الوترية، بمعدل أعمار شابة تؤدي مقطوعات محلية ولكن بإيقاع مدروس ومكتوب وفق المقاييس العالمية، مثل "مهابيلاو"، "تود متشيكيزا". مع مغوما تشيبو العازف على الكمان وأصدقاؤه تنسى الحس الموسيقي الإفريقي، من موسيقى الماريمبا أشهر الأنواع انتشارا في جنوب إفريقيا وتحديدا بضاحية سيوتو بجوهنسبورغ الفقيرة، وبدل الصورة التقليدية رسمت المجموعة منظرا حديثا لمجتمع جنوب إفريقي يتطلع إلى المستقبل، لا يشعر بالفرق بينه وبين الآخرين، بعد أن حطم جدار الأبرتيد. وحتى في لياقتهم الكلاسيكية تلك، كانت الرسالة واضحة للعيان بالنسبة إلينا، مفادها أن الموسيقى في جنوب إفريقيا كانت وما تزال سلاح مقاومة. الفرقة ذكرتنا بمريم ماكيبا الصوت الإفريقي الحار، الذي سكن الجزائر وتغنى بحريتها وحرية كل القارة السمراء. وقد كانت من الأصوات القلائل الذين كسروا قيود العبودية، وجابهوا عنف التمييز العنصري. لهذا حمل الصوت الجنوب إفريقي في طياته رغبة تكسير كل القيود التي وضعها الرجل الأبيض على تلك الأرض البعيدة والغنية. وبرزت أسماء مناضلة في مجال الفن على شاكلة المؤلف والمغني والموزع جوني كلاغ المشهور ب "الزولو الأبيض". الموسيقى في جنوب إفريقيا غنية ومتعددة، شبيهة بالأرض الكريمة التي لا تخلو من ثروات باطنية وظاهرة، وواسعة كمساحات التيه التي يمكن للواحد أن يجد نفسه في مواقع تمنح الهدوء وتصنع للخيال ورشة لإخراج المكنون. وقد التمسنا من الفرقة السيمفونية التي حضرت للجزائر هذه السنة، هذا البعد المتجدد في عناصرها الشابة، انفتاحهم على الآخر دون عقدة أو شعور بقصور، تبني لأصوات جديدة حملتها الحضارات الأخرى التي استقرت بأرضهم، واستعداد للأداء الحسن والتفوق تماما كما الجنس الأبيض. إنتهى واد النوتات الموسيقية في بحر بلجيكا السيمفوني، وعلى قارب "كينتات الأوركسترا الملكية" قاد جون فرانسوا شمبرلون وازابيل سكوبو وآن بيجن وفاندال الفقرة الثالثة والأخيرة من سهرة اليوم السادس من عمر المهرجان الدولي للموسيقى السمفونية بالجزائر. نفس آخر تكوّن لدى المتلقي بمجيء البلجكيين، هدوء من نوع آخر، وسكينة محمولة بصوت السوبرانو أميليا جاردون، التي أدت شعرا غنائيا لرسبيغي وآخر دفوركا.