-1- أقترحُ يوما تونسيا للكِناسة أسمّيه: يوم الكِناسة العظيم.. لا لأن أطنانا من القمامة وجبالا من أنصاف الجُمل المُلْغِزَة وقطعانا من زلاّت اللسان الفضّاحة قد حوّلت بلادنا، في ظرف عامين، إلى أكبر مزبلة في تاريخ العفن السياسي المُتوسل بقراءات مخاتلة لمسائل السماء وما فوقها، بل لأن حكام تونس الجدد، القادمين كيفما أتفق، من كهوف الغرائز الحيوانية والخرافات الجنسية إلى فضاءات المعقولية البشرية، لا يفقهون معنى من معاني النظافة سواء أكان ذلك في الدين أم في الأخلاق أم في السياسة أم في البيئة، والأمثلة أكثر من أن تُحصى في هذا المجال.. ولعل أكثرها شناعةٌ على الإطلاق هو "هبوط البدر النبوي المزعوم" في مطار تونسقرطاج الدولي، غداة الثورة التونسية، التي لم يساهم فيها أحد ممن يتربعون الآن على مسامير الكراسي، وفي ظنهم أن "الخلافة السادسة" على مرمى حجر من "أغلبية المجلس الوطني التأسيسي"، الناتجة عن "جوع غذائي وجشع منفعي" لدى الأطراف المتحالفة، وخصوصا منها تلك المتزينة، فيما مضى، بِعناكب العلمانية وبخنافس الحداثة.. بما فيها بعض قدامى اليساريين والليبراليين والقوميين الذين لم تعلمهم سنوات الجمر كيف يكونون رجالا ذوي كرامة عندما تحتاجهم بلادهم. -2- لا تستلزم الكِناسةُ من الشعب المغدور، في ثورته وفي حياته وفي مستقبله، مصاريف باهضة ولا قروضا محلية أو دولية.. بل تستلزم مكانس فقط. وهي، لذلك، أكثر فاعلية من التمرد ومن العصيان المدني، ومن الإضرابات القطاعية والعامة، ومن الهروب إلى الخارج ومن الحوارات الوطنية عديمة الجدوى، وكذلك من الغرق المجاني في قاع البحر الأبيض المتوسط بحثا عن كرامة لا تتوفر خارج البلاد. وسيكون كاذبا كلُّ تونسي أو تونسية حين يدعي أن ليس في بيته مكنسة أو اثنتان أو ثلاث على أقل تقدير.. هذا فضلا عن المكانس المعطوبة وأنصاف المكانس المنسيّة في ركن ما من أركان البيوت. -3- سينمائيا، وبعد إعلان كامل مدن الجمهورية التونسية وقراها وبواديها وشوارعها وأزقتها وطرقاتها أمكنة صالحة وضرورية للتصوير، وبعد تحديد يوم وساعة الكناسة بالدقة المطلوبة، على أن يكون ذلك قبل يوم ال 23 أكتوبر 2013 الموافق للذكرى الثانية لانقلاب "وزراء الشؤم واللحى والمداسات" على الشرعية الانتخابية، تقلع البالونات الهوائية وطائرات الهيلكوبتر والطائرات دون طيار وطائرات النقل الجوي والحمامُ الزاجل، وعلى أجنحتها أفضل مصوري ومخرجي تونس: تونس المنتمية إلى الحضارة الكونية وليس إلى صحراء الربع الخالي.. وهكذا يشرع العالم، صحبة ستيفن سبيلبرغ، صاحب فيلم "يوم الاستقلال" (استقلال الإنسان الأرضي من الكائنات الفضائية) في مشاهدة مباشرة لفلم سينمائي لا شبيهَ له، من حيث الأصالة، في التاريخ السابق واللاحق للبشرية: شعبٌ بأسره، في الهواء الطلق، يكنس طغاته المتنكرين في لباس أئمة وشيوخ وفقهاء وتُقاة وأولياء صالحين لا يعنيهم من أمر البلاد والعباد سوى الكذب والسرقة والاحتطاب وزواج المتعة وجهاد النكاح ونكث العهود وتشغيل الأصهار وقتل المعارضين وسجن الصحفيين والفنانين، والتلويح الدائم بأن "الله ونبيه محمدا" مهددان لولا أنهم جاؤوا لحمايتهما من شعب اعتنقت أغلب شرائحه الإسلام منذ قرون عديدة.. وهذا عينُ الكفر إذا كان لا بد من الحديث عن كفر وإيمان بدل الحديث عن عبودية ومواطنة. -4- ما من شك في أن حدود تونس، البرية والبحرية والجوية والتكتونية، ستشهد هروبا نشيطا لحكام تونس الجدد، مصحوبين بعائلاتهم وبمرتزقتهم من إداريين وأئمة ومستشارين وكُتّاب وصحفيين ومغنيين وأكاديميين ومنافقين، فضلا عن عمليات الانتحار الفردي والعائلي والجماعي التي سيسجلونها في صفوفهم، وهنا يأتي دور قوات الجيش والأمن الوطنييْن للمسك بهم وإعادتهم إلى الشعب الذي كذبوا عليه، دينيا وأخلاقيا وسياسيا، فلم يجد غير المكانس العادية والكهربائية للخلاص من سفاهتهم.. وإلى أبد الآبدين. أما إذا تعذرت هذه المهمة على رجال الجيش والأمن، لسبب من قبيل "واجب الحياد" الذي لا ضرورة له ولا وجاهة فيه خلال الفترات الثورية، فإن مكانس السكان الحدوديين مطالَبة بجمع الهاربين في حاويات القمامة المتوفرة لديهم، وفي الجلابيب والأكفان المستوردة من أفغانستان والصومال والسودان، والاحتفاظ بهم أحياء إلى حين تحقيق أهداف الثورة، وتشكيل حكومة شعبية ديمقراطية، يتربّعُ على رأسها وزير عدل مختص في "معالجة القمامة". -5- حين يصرح وزير داخلية في حكومة تدعي، كذبا وسفاهة، أمام الله وأمام التونسيين وأمام العالم، أنها حكومة ثورة، بأن وزارته خصصت 600 عون أمن لحراسة شخصيات تونسية قصد حمايتها من خطر الاغتيال والتصفية الجسدية، ويزيد: فيؤكد أن 95 بالمائة من هؤلاء الأعوان يحرسون شخصيات معارضة للنظام القائم، فإنه لا يفعل شيئا آخر غير التستر على أن الحكومة التي ينتمي إليها هي حكومة إرهابية بأتم معنى الكلمة.. بعد أن كانت حكومة احتلال ثم حكومة اغتيال منذ الأيام الأولى لانقضاضها على السلطة. وحين يتمنى نائب رئيس الحزب الإخواني الحاكم أن "يكمل بقية أيامه إماما في مسجد بجزيرة صقلية الإيطالية"، بعد أن فشل في إقناع حزبه بأنه "فاز" بكراهية المجتمع له، إضافة إلى "فوزه" بكراهية النخب الفكرية والثقافية والسياسية والنقابية والحقوقية، فإنه لا يُثبت شيئا آخر غير أنه نائب لرئيس حزب غير مدني لا يؤمن بالديمقراطية وبالتداول السلمي على السلطة أصلا.. فضلا عن عميق إيمانه بأن "الخروج على الحاكم حرام شرعا"، وأن الثورات لا قيمة لها إلا إذا أوصلت انقلابيين مثل بني حزبه إلى سدّة الحكم. وحين يقول وزير تربية، لا يستقيل حين يقرر أن يستقيل، بأن الرجال الذين يحكمون وسيحكمون تونس يجب أن يكونوا من مواليد المنطقة الممتدة من مدينة قابس حتى الحدود الليبية، فإنه لا يفعل شيئا آخر غير الوشاية المجانية بمشروع الإمارة التي بدأت أخبار تتسرب حول امكانية انشائها وذلك باندماج الجنوب الشرقي التونسي مع الغرب الليبي بقوة السلاح والإرهاب في حالة حوصر "الإخوان" التونسيون والليبيون ولفظهما شعباهما. وحين يُشبّهُ وزير نقل الفوز النسبي لحزبه في الانتخابات التأسيسية التونسية القطرية الفائتة "بفتح مكة" فإنه لا يفعل شيئا آخر غير تجريد التونسيين، الذين لم يصوتوا لفائدة حزبه، من الجنسية التونسية واعتبارهم كفارا يجب قتلهم بالخناجر والسكاكين.. وهو ما حصل بالفعل لجنودنا في وقائع جبل الشعانبي. في حظيرة الغرائز الحيوانية التي تعتقد أن الوحي مزرعة خاصة بها وحدها، وليس إرشادا إلهيا لبني البشر، لا توجد حمائم وصقور: توجد كواسر متعطشة، على الدوام، لرائحة الدم ولمذاقه. يُوجد جواسيس وعملاء ومتديّنون متحيّلون ومرتزقة وباعة سلاح مرهونون للتجارة الموازية وللدوائر الخارجية بالكامل. وأن في تاريخ الإسلام السياسي، من الفظائع والعجائب والرذائل والخيانات والنهب، ومن الرؤوس المقطوعة التي طافوا بها في الأسواق، ما شجع الكثير من المسلمين على الهروب إلى ديانات أخرى ليس فيها وسائط شريرة وحقودة ما بين الله وخلقه كالتي نراها اليوم في تونس وفي مصر وخارجهما. -6- خلال آخر لقاء مصري، جمع بين الفريق أول عبد الفتاح السيسي والرئيس "المربوع" محمد مرسي، جرى حوار قصير شبيه بذلك الحوار الذي تم بين القاضي الإيطالي وبينيتو موسوليني على إثر هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية. قال السيسي لمرسي: "لقد انتهت مهلة الحوار بين جماعتكم وبين معارضيكم ولم تتوصلوا إلى حل توافقي.. ومصر مهددة بالإرهاب والفوضى.. فما هو ردكم النهائي؟ فأجاب مرسي باللهجة الدارجة: "احنا جايين لخمسمائة سنة". فما كان من السيسي إلا أن أعلمه بأنه محبوس ومكنوس ابتداء من تلك اللحظة.. قبل أن يغادر المكان ويُغْلقَ بابُ الحوار مثلما تُغْلقُ اللّحود على رفات الموتى. -7- عندما نُحاور "شخصا إيديولوجيا" نكون بصدد محاورة مريض يحتضر، لا أمل في شفائه إلا حين يعترف بأن هناك كتبا أخرى غير الكتاب أو الكتابيْن الذيْن قرأهُما أو تمت قراءتُهما عليه على عجل. وحين نحاور "شخصا إيديولوجيا دينيا" نكون بصدد محاورة جثّة أتى الدود على شحمها ولحمها منذ قرون، بحيث يصبح عدم انتباهنا إلى أننا نحاور موتى موقوتين كالقنابل نوعا من التآمر الصريح على عقارب الزمن وعلى أمن البلاد وعلى مصير العباد. وحين نحاور "إخوانيا تونسيا واحدا" نكون بصدد محاورة أربعة شخوص في اللحظة نفسها أُصيبوا جميعهم بأمراض الجُبْن والطمع والفصام والبُهْت: فتارة يحاورك بوصفه مظلوما لم يعترف التونسيون بحقه الطبيعي في التعسّرِ رغم التيسّرِ. وتارة يحاورك بوصفه عضوا في مجلس الشورى لحزب حركة النهضة. وتارة ثالثة يكلمك بوصفه عنصرا من الأغلبية البرلمانية. وتارة رابعة يدير لك ظهره ويناقشك بوصفه عضوا في الحكومة.. إلى أن يُصيبك الدوارُ من كثرة الحديث مع أربعة "مناظر" ما هم، في الحقيقة، إلا لصٌّ واحد. وفي هذا السياق، لا يمكن السكوت عن التقصير الفكري المخل في أداء أحزاب المعارضة والنخب السياسية التونسية وفعاليات المجتمع المدني.. عامة، التي تتسول التوافق والوسطية، فيما يشتعل خصومها من "الإخوان" على القطيعة والجذرية وذلك بالعمل الفعلي على تبديل هوية الدولة بالتوازي مع تفتيت المجتمع، بغاية صهره وقوْلبته، لاحقا، كما تُصْهر الطناجر والصحون والخناجر والأجساد الاصطناعية المهيأة للعرض وراء بلور المغازات. كما أنه لا يمكن السكوت عن التجاء شرائح عديدة من الشعب التونسي إلى اليأس وإلى الدعاء على الثالوث الحاكم، بدلَ كنْسه من السلطة بالطريقة التي نقترحها وبالطريقة التي اقترحتها، من قبلنا، الشاهدة مباركة البراهمي أرملة الشهيد المغدور محمد البراهمي. -8- لا يجوز، حسب قوانين "الفيفا" للعام 2013، أن تدور مقابلة في لعبة كرة القدم بين فريقيْن يجهلُ أحدُهما قواعد اللعبة، فيبيح لنفسه اللعب بالساق وباليد وبالهراوة والحجارة في الوقت نفسه، ويمنع على الفريق المنافس حق الاحتجاج على هذه الهمجية الرياضية لدى حكم المباراة. كما لا يجوز، في مباراة كهذه، أن يتعاون ملتقطو الكرة والبوليس والمصورون والجمهور مع حارس المرمى، المتمرد على قوانين "الفيفا"، لقطع طريق الشباك أمام الأهداف المؤكدة للفريق الذي يحترم قواعد اللعبة. وإذا جاز أن نُسمّيَهُ حوارا هذا الاستهتار المُسمى "حوارا وطنيا" والدائر اليوم في تونس المنكوبة، بين سلطة منقلبة على الشرعية والثورة منذ أكثر من عام وبين معارضة بصدد إصلاح أخطائها وترميم سوء تقديرها لمرحلة ما بعد سقوط النظام يوم 14 جانفي 2011.. إذا جاز أن نسمّي ذلك كذلك، وجب أن نقرّ بأن حَكَمَ هذه المباراة ما هو إلا الإدارة الأمريكية بقيادة باراك حسين أوباما المسيحي الإخواني الذي لا يجد تناقضا بين دعمه "للشرعية" في مصر، رغم أن ثورة شعبية قد دكّت حكم الإخوان يوم 30 جوان 2013، وبين سكوته عن الانقلاب على الشرعية الانتخابية في تونس منذ يوم 23 أكتوبر 2012. لقد كان بإمكان باراك أوباما حفظ ماء الوجه أمام التونسيين فيما لو أسرّ لهم بأن مراقبا الخطوط "القطري والسعودي" وأن مراقب المقابلة "التركي" "غلْطوه".. وهكذا تبقى حقوق التأليف محفوظة لزين العابدين بن علي، وينجو أوباما من مساءلات الكونغرس التي قد تقوده، ذات يوم، إلى معتقل غوانتانامو. -9- لم ينزل القرآن على طه ليشقى، ومع ذلك بلغ الشقاء بالتونسيين أشدّه بسبب يأجوجهم التشريعي ومأجوجهم التنفيذي وألاعيبهما العَفِنَةِ بمصير بلادٍ لا شيءَ، في أدبياتهم وفي لباسهم وفي وجوههم، يجعلهم جديرين بالانتماء إليها فضلا عن العمل السياسي داخلها بتأشيرة مخالفة للقانون وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. الأمر الذي يجعل سحب هذه التأشيرة منهم ومن أحزابهم الطائفية من أوكد العمليات التحضيرية ليوم الكناسة العظيم. وأن المتفحّص لديباجة الدستور التي تتم صياغته، منذ أكثر من عام، تحت قبة المجلس الوطني التأسيسي سيلاحظ، بيسر تام، أنها ديباجة شبيهة بعقد عبودية دائمة بين الشعب وحكامه الذين اختاروا الحكم مدى الحياة منذ اللحظة الأولى لطروئهم على الحكم بدليل أن موعد الانتخابات القادمة، في نظرهم، سيكون يوم "إن شاء الله" من شهر "إن شاء الله" من سنة "إن شاء الله". وما من شك في أن هذا التاريخ "الموغل في الدقّة" هو الذي جعلهم يحولون كل حوار بشأن مستقبل البلاد إلى حفلة شاي بعد أن حرّمَ عليهم الشعب التونسي تناول الشاي، وغيره من المشروبات والمأكولات، في جميع الأماكن العامة بالبلاد التونسية.. ورماهم بالبيض وبالأحذية حيثما حلّوا محاطين بحراسهم وبمليشياتهم مثل المساجين الخطرين. -10- لا يستطيع الشعب التونسي "باستثناء الثلاثمائة وأربعين ألف انتهازي ومجرم المندسّين في تعداد السكّان" أن يفعل المستحيل من أجل حكومة لم تفعل من أجله الممكن. كما أنه لا يقدر على عصيان تعاليم الله الذي دعا إلى محاربة الطغاة، وأنزل كلمة (طغى) ومشتقاتها في تسعة وثلاثين موضعا من القرآن. وهي مشتقات تتطابق، تمام المطابقة، مع فعائل هذه النكبة الفعلية التي حلت بتونس والمسماة مجازٌا: نهضة.. حتى إن قوم عاد وقارون وفِرْعون وهامان صاروا من حاضر التونسيين وليس من ذاكرتهم البعيدة. لأجل ذلك تلوحُ الكِناسةُ للشعب التونسي مثل فريضة أخفى الشرّاح والمفسرون والفقهاء والأئمة المحليون وجوبها عليه.. صباحا مساء ويوم الأحد.