أقصد بالمثقفين البغاة كل أولئك الإعلاميين والمنشطين النجوم في الفضائيات المصرية والكتاب والموصوفين بالخبراء والمحللين ونجوم الفن الذين انخرطوا في لعبة الميديا التي فجرتها مقابلة التأهل إلى المونديال بين الفريق الجزائري والمصري·· لماذا هذا النعت ''البغاة''؟! لأنهم استخدموا تلك المنابر التي من المفترض أن تكون جسر تواصل وإشعاع ورقي بالذوق والحس، كجبهة حرب حقيقية ليس ضد فريق أو أنصار، وإنما ضد بلد وشعب بأسره··· حرب تجاوزت مساحة العقل لتنجرف نحو يم اللاعقلانية، يم أسود، متلاطم ولا يورث للذي يسبح فيه سوى العمى وثقافة العمى·· حرب وظفت فيها البلاغات والاستعارات والمفردات كأسلحة دمار شامل·· حرب بثت على الهواء وفي كل الأوقات، الليل والنهار، الصباح والمساء·· من البث الحي للحصص إلى إعادة البث مسجلا·· حرب مزدوجة متعددة الجماهير من حيث الاستهداف، جماهير محلية، في الداخل، وجماهير الخصم الذي تحول من أخ وشقيق إلى عدو، (وهي الجماهير الجزائرية) في الخارج·· وقد حولت التعبئة الشاملة في هذه الحرب التي انطلقت شرارتها في الظاهر من الكرة إلى التاريخ والسياسة والجغرافيا السياسية، هؤلاء اللاعبين على ساحة الميديا إلى جنرالات على رأس ألوية وفيالق تريد استرجاع ''حق مصر'' المغتصب، واسترداد ''الكرامة'' المهدورة على ''يد البربر الهمج''·· وتحقيق ثأر ''الشقيقة الكبرى''·· على الشقيقة ''المتطاولة'' والقيام ب''تأديب'' هؤلاء الذين تناسوا من هي مصر·· ''دي مصر'' ردد أكثر من منخرط في حرب الميديا التي تشابكت خيوطها عندما انتقلت إلى ساحة الأنترنت، وإلى شوارع القاهرة والخرطوم والجزائر·· وصف هؤلاء المثقفين بالبغاة، ليس مبالغة ولا قدحا·· بل محاولة فهم وتشريح حالة باتولوجية، كانت بمثابة البوتقة التي انصهرت فيها التوجهات والنزعات اللاعقلانية والمخيالات المسكونة بأشباح العظمة وتوهمات التفوق والقوة·· وتجلت من خلال تعابير مهووسة هي أقرب إلى الهذيان وفي ذات الوقت إلى الإفصاح عن كل ما هو مكبوت ودفين، بفعل أثقال التسلط الطويل الممارس من قبل أصحاب الحل والعقد وذوي النفوذ السياسي والمالي والرمزي·· وفي هذا المقام يجب أن نثني على الكرة بشكل عام، وعلى المقابلة التي حقق فيها الفريق الجزائري نصره على الفريق المصري بشكل خاص لأنها حققت ما عجزت عنه لعب أخرى ومنها لعبة السياسة·· تحول هؤلاء المثقفون إلى بغاة لأن الميديا كقوة سحرية منحتهم ذلك الشعور بالمباهاة والقوة·· قوة الأنا المتعالية والباطشة في لحظة الغضب وفي لحظة الإحساس بتعرض كرامتها للأذى·· لكن أيضا وفرت لهم مواقعهم في الميديا الضمان للذهاب بخطابهم إلى أقصى الحدود اللامعقولة، ووفرت لهم الطمأنينة والغطاء الكافي لخوض الحرب التي ظنوها في لحظة تشظي الخطاب وانفراط عقده حربا مقدسة ومصيرية من أجل مصر··· وإذاما أردنا الحفر شيئا فشيئا والتقدم قليلا من ظاهرة ''المثقفين البغاة'' وحربهم المقدسة ذات الغبار الكثيف، فإننا نشير على طريقة المضي رأسا إلى الهدف·· إلى أن الميديا ليست مجرد وسيلة معزولة من حيث هي أدوات وسائل إنتاج لخطاب، بل ملك فئة أو مجموعات نافذة من المقاولين ورجال الأعمال·· وهذه المجموعات المالية لها غطاء بيروقراطي سياسي، هو الحزب الحاكم، ولها زعيم سياسي قيد التحضير ليرث والده على رأس النظام الحاكم إسمه جمال مبارك··· ومن هنا كانت الصفقة بين المثقفين البغاة وأصحاب النفوذ شبه المستترين وفي بعض الأحيان العلنيين لتمثيل مصر المهيمنة، مصر المتسلطة، لكن في الوقت ذاته، مصر القلقة، الخائفة والمرتابة من المجهول على حساب مصر المحاصرة، والمطاردة والمكممة أفواهها·· مصر التي ضرب على أصواتها العميقة والحية والغاضبة ستار سميك··· لقد أفرغ المثقفون البغاة ومنهم قوميون ناصريون سابقا جم غضبهم على جمال عبد الناصر·· لأنه وقف -حسبهم- إلى جانب ثورة المليون شهيد، وربط مصر بالفضاء العربي الذي لم تجن منه مصر سوى العقوق والتنكر·· وقال بعضهم علنا أنهم ''يكفرون بالعروبة'' بعد ''الاعتداء الذي تم على لاعيبة مصر في الخرطوم··؟!'' طبعا، كل ذلك معقول·· عندما تتحول اللاعقلانية إلى السمة الرئيسية لخطاب المثقفين البغاة· ترى ما هي الحجج التي لجأ إليها هؤلاء المثقفون البغاة، لتبرير خطابهم؟ 1 التوظيف المشين لشريط ''اليوتوب'' لشاب جزائري، متواضع المستوى، عبر عن استيائه لما تعرض له أنصار الفريق الجزائري من معاملات سيئة بعد المقابلة التي جمعت بين مصر والجزائر في 14 نوفمبر، ولقد توعد الشباب المجهول الهوية برد الصاع صاعين في الخرطوم·· وجعلت الميديا المصرية من هذا الشريط زادها القوي في توسيع رقعة حربها، ليس ضد الشاب، بل ضد الجزائريين عموما·· ونفس هذا الشاب عاد بشريط ثان واعتذر عن ما بدر منه، لكن الميديا ظلت تركز على الشريط الأول··· 2 شريط ''اليوتوب'' الذي يظهر أنصارا من مولودية الجزائر واتحاد العاصمة، وهما فريقان محليان، يحملون سكاكين ومطاوي، وكانت المقابلة في زمن الاعتداء الإسرائيلي على غزة·· 3 منظر حافلة مصرية كانت تحمل على متنها مجموعة من المثقفين والفناين، تعرضت حسب الرواية المصرية ولا نريد التشكيك في ذلك لرشق بالحجارة من طرف أنصار جزائريين··· 4 صورة طيران جزائري تابع للجيش الوطني الشعبي، حمل على متنه أنصارا جزئريين إلى الخرطوم··· وأمام هذه الحجج الموظفة من طرف المثقفين البغاة كان الرد يدعو إلى: قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية مع الجزائر· أن يتقدم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة باعتذار إلى الرئيس المصري حسني مبارك· مقاطعة الفنانين والمثقفين المصريين لكل فعاليات الجزائر الثقافية والفنية· مقاطعة الجزائر رياضيا· توجيه العتاب الشديد إلى كل العرب الذين لم يقفوا في صف مصر، واكتفوا بالتفرج على ما يحدث· ما الذي يمكن استنتاجه من كل هذا؟! الاستنتاج الرئيسي، أننا نعيش حالة إسمها سقوط مصر الرسمية، مصر ما بعد حقبة جمال عبد الناصر، التي عزلها السادات بمبادرته الفردية في عقد السلام مع إسرائيل لوقت، وربط مصيرها خليفته حسني مبارك بشكل أكثر تعقيدا بالعجلة الأسرائيلو أمريكية·· وحالة سقوط مصر ليست فقط سياسية وجيوسياسية، بل أيضا على صعيد ثقافي·· وهذا ما كان يمنح لمصر قوتها التنويرية والريادية··· تعيش مصر عملية نخر مستمرة، عملية نخر من الداخل ولقد بدأت هذه العملية مع من كانوا يوصفون بالقطط السمان، وهي إشارة إلى انحدار النظام البيروقراطي المهزوم سياسيا إلى مستنقع الفساد··· ولقد أنتج هذا الفساد رموزه وملاحقه النظامية من داخل وخارج المؤسسات الرسمية، وسلطه المتوغلة في أعماق بنى المجتمع المدني والسياسي، حيث أصبحت المقاومة لعهد الردة تعيش أسوأ ظروفها وحالاتها، ورفعت بعض الأصوات التي كانت حاملة لمشروع الأمل الراية البيضاء، بينما وجدت أصوات شريفة خاضت تجربة المقاومة في حركة كفاية نفسها مسلط على رقابها سيف التخوين والتنكر لمصر، عندما سعت للوقوف في وجه مهندسي سيناريو التوريث أمام البديل الديمقراطي، لكن فيما يبدو أن الكرة كانت النجدة القادمة من بعيد وحليفة لمناضلي حركة كفاية وحركة الإخوان عندما عقّد الهدف الجزائري الذي هز شباك حارس المرمى المصري عصام الحضري في أم درمان مثل هذا السيناريو، السيناريو المعد من قبل الرعاة السامين لهؤلاء المثقفين البغاة···