1.. اليوم الأول ما بعد الأخير الخامس من جانفي، الساعة تشير إلى السادسة والنصف.. أراجع الحلقة المتعلقة بنص "مع بومدين ضد بومدين" تحت العنوان الفرعي "هجنة التاريخ وروح الطوباوية" المعد للنشر... أغادر الجريدة متجها نحو المكان الخاص بي للكتابة في ظل الوحدة.. أشعر بالقليل من التعب.. أحضر الحلقة القادمة من السير مع بومدين... أستلقي منصتا إلى الألبوم الأخير لفرقة بابيلون... أتصفح كتاب "الثقافة والإمبريالية" لإدوارد السعيد.. أفكر في الوقت ذاته في عدة رؤوس أقلام التي أعمل على تطويرها للنص الجديد... وفجأة، تلفون.. صديقي الشاعر الجميل عادل يهاتفني ويخبرني هكذا دون مقدمات أنه في الجزائر العاصمة.. يقترح علي أن نلتقي رفقة صديقنا الشاعر البوهيمي بوزيد حرز الله.. قلت لعادل، إذن لنلتقي ما دمت متأهبا للسفر إلى سيدي بلعباس غدا... تعشينا وتاهت بنا الكلمات والحكايات... أمسية مليئة بالنقاش المتشعب والمشاريع المجنونة... وفجأة يدق تلفون بوزيد، ليتأوه بحزن قائلا لنا "بن قطاف"، تساءلت "ما له بن قطاف.." قال: "مات".. وحدها الكلمة كانت كافية لتشرع باب الصمت والحيرة والتذكر السريع كاللمحة المغطسة في بحر الزمن العميق... طبعا كان مريضا.. طبعا لم يكن الخبر مفاجئا.. ومع ذلك كان طعم الخبر مريرا، مفجرا لكآبة صاخبة في صمتها ودويها المتلاطم في أعماق كل واحد منا... دخلت إلى البيت.. لكن صورته ظلت تتجلى من وراء تلك الستائر التي تخفي كل تلك اللحظات التي تنبعث فجأة من سراديب الذاكرة... الموت يعيدنا دائما إلى لحظة البداية من تموقعه وتجليه في زي النهاية المفتوحة... 2 دائما اليوم الأول ما بعد الأخير... منتصف النهار، اتجه إلى مقبرة العالية.. وحدها العالية تعيدك إلى كل الجنازات إلى كل لحظات الوداع الأخيرة للمثقفين، السياسيين وكل من أحببنا ومن لم نحب... أمام باب العالية، كانت هناك بعض الوجوه القديمة من رفاق بن قطاف.. من وهران، باتنة وڤالمة... حسرة، لكن الكثير من الصمت.. يصلى عليه.. نفس الكلمات المألوفة في الجنازات.. اكتفي بالصمت وتأمل تلك الوجوه التي كانت ترتسم على ملامحها لوعة الفراق وحرقة التذكر... 3 ذات يوم خريفي من 2009 التقي بمحمد بن قطاف في الطابق الثاني، بمكتبه في المسرح الوطني، نتبادل أطراف الحديث يقرأ لي مقاطع من نص قديم جديد.. أطرح عليه، أن نكرمه في فضاء بلاستي في سهرات ألف نيوز ونيوز، توردت وجنتاه، وانتابه خجل عميق.. يحاول المقاومة لكن فكرة التكريم هي التي ستنتصر.. كان اللقاء حميما ودافئا، عاد فيه بن قطاف أمام الجمهور إلى أهم لحظات المسرح الجزائري... 4 في يوم من ربيع 2010 كنت أشتغل على نص الموت لمسرح سيدي بلعباس.. ألتقي به مجددا رفقة فريقه المقرب، نتناول قضايا المسرح وراهنه، لكن أيضا نتحدث عن التجارب المسرحية الجديدة.. حدثني كذلك عن وزيرة الثقافة خليدة تومي التي كانت من وراء استقدامه على رأس المسرح.. وبرغم اختلافات وجهات نظرنا حول استراتيجية خليدة تومي، إلا أنه كان وفيا ومقدرا لها.. وأيضا أستطيع القول إن حرصها على استمراره على رأس المسرح الوطني كرمز وعلامة كبيرة في مسار الحياة المسرحية والثقافية الجزائرية يحسب لها... وقال لي في لقاء إنه سيكون مسرورا إذا ما اشتركت معه في عمل حول حياة محي الدين بن عربي.. ظل المشروع قائما.. لكنها الأيام.. 5 هدية بن قطاف حرصت على بن قطاف لكتابة مذكراته أو مساره.. كان متعبا، اقترحت ذلك على عدد من الزملاء ليسجل مساره لقناة من قنوات التلفزيون.. الزملاء دائما يعدون، لكن من ذا الذي كان قادرا على الوفاء بكلمته... قامت جريدة ألجيري نيوز باقتراح على بن قطاف لكتابة جزء من مذكراته من خلال مقالات مسلسلة بالتعاون مع صحفي من الجريدة.. وكان ذلك أهم إنجاز افتككناه من بن قطاف... وهو مشروع كتاب صغير، سيكون الأثر الجميل لهذا الفنان المسرحي الكبير... 6 كلمة أخيرة.. وداعا أيها الصديق... وداعا أيها العملاق..