ما التقى ثلاثتهم في التواد والمرحمة، في المحنة ورهاب المعنى، في السجن والفتنة والقضاء، في الجوسسة وعوالم الباطن والموت الجميل، كهؤلاء، هؤلاء الثلاثة المنسجيين على معان ودلالات وأفكار جامحة ناطمة للقياهم وملقاهم في قارات واحدة وساحات واحدة وبؤرات واحدة، جاك فيرجيس الخطر الواعد بجهنم أمام المحاكمات والمرافعات التي يختارها، محمد بوديعة، الأندلسي الوسامة، المكابر في جزائريته، الرجل الذي اغتالته الموساد بلا شك أو ريب، واليتش راميريز سانشيز كارلوس، وكارلوس هذا قابع في سجن /الساننتييه/بباريس الذي تنقل عنه الأخبار أنه لازال يقرأ ويكتب الشعر ويحب الإسلام الثوري وفلسطين... بادئ القول إن الثلاثة في مطافهم وتطوافهم سعاة فلسطين، طالبين على الدوام قربها ومقتربها، شغلهم الشغوف هو هذه القضية.. ليس جاك فيرجيس في هيئته الفيتنامية وصارم نظرته المريبة التائهة ممتط لشهواته ودنس الشهرات التي تلهي عقول الرجال من هذا العصير الوشيك، لأن فيرجي من هؤلاء الذين خلقوا ليبذلوا، قدموا ليستمتعوا، سلموا بالمقدرة الربانية وموهبة التنكب إلى فضائل الأعمال وإن قلت، وهي لم تكن قليلة في حياة جاك فيرجيس الناهض من تربة جزيرة رينيون، كان الأقرب عقائديا إلى يسار مثالي من العالمي، كثيرة هي القضايا التي نالت منه، الجسم مكدود والريق نشف وقلب المحامي لازال يلهث وراء الروب الأسود والشارتين الحمراء والبيضاء كما هي بدلات المحامين الرهيبة القاتمة، من مثله سيضرب الأخماس بالأسداس، فجميلة بوحيرد جميلة ثورة الجزائر النوفمبرية قالت لنزار قباني، /أكل هذا الكلام لي و عني/ مستغربة من أن الثورة حقيقة ليست هي مؤنث الثور، والأمكنة التي كان يطير إليها جاك فيرجيس خسرت حروبها على الأرض وعلى الورق، والأدب القضائي والحقوقي صار مبتذلا هذا الصباح، فهذا الصباح المعتم سرقته اللحظة المعلومة ذاهبة به إلى الحتف، أية قضية بقيت لنصير ثورة الجزائر وأي فكر محاماتي خلفه للتلاميذه من بعد موته ورمسه.. انكسارات وحطام وفناجين قهوة ودلق للكلام على المئزر النبيل.. امراة من قسنطينة والجميلات واللواتي كن معها، استشهدن، متن، نهبهن العمر بنتيجة الثورة صفر والنفط واحد، ماوتسي تونع والماوية صارت تحريفية تصب في المصب الرأسمالي وثقافة الكارتيلات، والآخرين، الآخرين في عداد اللاأشياء، الألوية الحمراء، فوج بادر ماينهوف، جورج ابراهيم عبد الله، الايرا، الايتا، الدرب المنير، اللوثرية، ثم ها هو كارلوس يدخله حسن الترابي إلى سجن السانتييه فلا يخرج منه أبدا... لأن جاك فيرجيس الهادم، التوربيدو، اللاهث خلف ثلاثة أرباع من القضايا وخساراتها أضفت له ولعمره الحسنة وعشر أمثالها في حسن تدبره للقضية ومسلسلها، تسويق القضية وصاحبها إلى العالم وبيعها والتباهي بغلائها أمام الإعلاميين وكلابهم المتشممة لريح الجحيم، قلب الموازين بقوة العدل والحجة، كما هي جرائم الاستعمار في الجزائروتونس والفيتنام والعراق وعلى مر دهور وأزمنة.. يثير هذا المحامي الحاد التقاطيع، البهي الطلعة شجون الشغل وشؤون المهنة، إنه يجعل من فعل المحاماة فعلا مسرحيا كامل المجانسة مع المسرح، أي يمسرحه، الشخص والتمويهات، الأقنعة والكوستيم، النط على الركح والتماري خلف الستار، تماهي شكله مع مهنته، وتماهت مهنته مع طلعته الكمبودية، نظاراته الرقيقة والشفافة، نزعته المتأوربة في الملبس والرفاهة والذوق، ونزعته الآفرو أسيوية، ما بين البينين، حيث الصخب لإفريقيا والهدوء والزان والكارما ?سيا... لقد سيس القضاء وشواغله هذا المحامي، ذاك الذي كان يريده ويروم تحقيقه بكد اليمين وعرق المحيا، تسييس القضاء والمناورة في المحكمة ضمن استراتيجية تفضيح وتلغيم وإبطاء وإرجاء الأحكام وإشعار الجناة المفترضين أنهم مقترضين فقط ولم يفعلوا فعلهم ذلك إلا بنية معاقبة الجلاد على صنعه الإمبريالي بالعالم... يخوض جاك فيرجيس خوضا في هذا التلغيم المنهجي للقضايا... إنها عنده ليست قضايا أفراد أذنبوا أو أغلظوا الإيمان على الجنح والجرائم أو حقت فيهم نظرية لومبروزو/ ولدوا و الجرائم بين أصلابهم وضلوعهم/ غير أنها قضايا في الجريمة السياسية، في زيف المؤسسة التاريخية، في أدلوجات الجطاب الكولونيالي المفرع من القيم والمثل... إن جاك فيرجيس يشطط في الميزان إلا قليلا، يشذ عن القواعد ويهرب إلى العراءات، فلا الناقة ولا الحليب، البقرة السمينة ولا السنوات غير العجاف.. "يقدم /فيرجي/ هذه المسرحة الغربية لحاملي الملفات الصعبة والشائكة ومرتادي الروب الأسود، بل أنه ضميرهم حيث يعجزون من الذي يتمنون أن يكونونه" غابر السينين مرت والمادة الثرية هي ذاتها تسيل اللعاب، لعاب الإعلاميين، لعاب الساسة ورجال السلطة والسلطويين، لعاب المتلاعبين، بالكاد وأمثالهم هم السلطة الخامسة، يثير في كل قضية يخدمها غبارا ماثلا مائلا، جورج إبرهيم، عمر الرداد، موسى تراوري، جميلة الجزائرية، عباسي مدني ومن ربضوا معه في سجن البليدة، أحمد الزاوي وقصة ترحيله من فرنسا إلى بوركينا فاسو، / يا لسمح محاكمة عمر الرداد، المتهم بقتل فرنسية على ضفاف الكوت دازو/، يجب أن يقام مأتم لفرنسا العظيمة، الغارقة بداء عظمتها في دم ضحاياها". عندما تم ترحيل الناشط الإسلامي الراديكالي ورئيس المجلس التنسيقي لجهة الإنقاذ الجزائرية أحمد الزاوي قال فيرجيس/ لما تحاكمونه وهو ثمرة إنهيار الدولة الوطنية في المستعمرة القديمة، وأحمد الزاوي هذا الجامعي ليس به إلا هذه اللعنة التي أصابت الجميع من الراديكاليين الإسلاميين إلى العسكر الجانفيين، لعنة السياسة ولفحة النضال من أجل ديموقراطية غير انتقائية تضم الجميع تحت جلبابها. أعطى المحامي صبغة الامتياز النضالي لكارلوس ولم يتوان في السعي لحمله على محمل صاحب الحق والشرعية وليست فرنسا إلا مختطفته جورا وعدوانا وناقلا إلى الصحافة الخبر المدوي من الرئيس ميتران أصدر تعليمة بقتله.. يروي صحافي عربي بارز عن كارلوس النصير الوفي لفلسطين، الرواية التي تعلي عن شأنه وتنزع عنه الأغلوطة التي يساق بها إعلام العالم كونه إرهابي، قاتل، ومفجر عبوات ناسقة، هي رواية تسجل تردد كارلوس على مكتب بسام أبو شريف في بيروت على مقربة من كورنيش المزرعة، إذ ذاك كان مقر مجلة الهدف الفلسطنية المعروفة بتوجهها، توجه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قيض الله لفلسطين هذا الفطحل القتالي النابض بالعروبة والحب والنساء، تقول هويته إنه مواطن فلسطيني، مسقط رأسه أرض كاراكاس، كنيته إبن آوى، ثقافته كتب وأسفار ومسدسات، يرجح إسلامه إسلاما اكزوتيكيا ثوري الهوى وله بنت وزوجات ثلاث سابقات.. وقف خريج جامعة باتريس لومبومبا وقفة المخاصم المهاب الجانب لصهيونية تعيث فسادا ولإمبريالية شريعتها الفريدة هي إضطهاد بني آدم من الضعفاء الحقراء من صغار الدنيا .. وها هو أليتش راميريز سانشيز يختطف وزراء منظمة الأوبك من عام 1975 ثم هو ينقلهم إلى الجزائر، ولقد حفلت بعدها سبعينياته بنشاط منقطع النطير خطفا وقتلا واحتلالا وكمائن، الاستيلاء على السفارة الفرنسية في لاهاي، نشاطه مع حركة فتح وتحويله لأحد عشر لاعبا إسرائيليا في الألعاب الأولمبية بميونيخ، استهدافه طائرة العال الإسرائيلية بالأربيجي .. يحق القول عن كارلوس أشياء كثيرة ليست هي من فنون المديح وخلسات الغزل السري المجنون، الوسامة والأناقة والعشق لأزيز المسدسات والحياة الباطنية المشتهاة التي تلتصق بهؤلاء الذين لا يكفيهم وهج واحد ونهج واحد وامرأة واحدة ومسدس ولذلك بدا كارلوس مشعا دائم الإشعاع ومستغرقا فيه حتى قبل أن يلج عتبات سجن لاسنتييه ببضع لحظات ... عالميا أعطى كارلوس بصمة اختلاف وتغابر للفعل الثوري الأممي والمسلح، إذ أنه استكمل مشاريع غيره، نقلها من النطري الكتابي إلى الساحة والميادين .. كما ساعدته الخطوة الإلهية ومشيئة الخالق في أن يكون نقيضا لمبدئه ونسقه وخيارته عكسه تماما جواسيس وعملاء من نوع ميشال مكربل وعاصم الجندي والدحلان وبوب دينار، بل خانته القضايا والأوطان ومسالكها القوموية المعوجة وانبطاحات القادة والزعماء القرمطيين... في زمن الزخم والتطلعات التقى محمد بوديا الجزائري المثقف بالفنزويلي الذي يسرق الأنظار كاين آوى .. لقد تلازم الاثنان كظل، كطلين من بياض ونور، يحاني الثقافة والمسرح ويأملان محبة أحمد بن بلة أكثر فأكثر كما يأملان في فلسطين حرة أبية .. نشأ محمد بوديا على صبوات الثورة، ساهم في تفجير أنابيب النفط بمارسليا، سجن، وهرب ولجأ إلى تونس حتى ظهور /البن بليزم/ بلفحه الوطني، رجل القلم والبندقية كان وليس من السهل آنذاك أن يقتص للمسرح هيكله الذي يليق به فيكون منارة الفنون الشعبية والرقص ومذاهب الترتيل الغنائي والكورال، كان فضيلة عظمى من فضائل أحمد بن بلة أن تردف الثروة وسحرها بسحر المسرح ولذائذ الفرجة.. على خطى غيفار سار محمد بوديا والتحما -هما اثنان- على خلفية لقاء قمة في منطقة الشريعة وعلى خطاهما سار كارلوس، لقد سبق الأول الثاني في هذا الهوى الجياش القاتل، هوى المسدس والتوغل تحت لحاف الأجهزة الإسرائيلية وملحقاتها في أوروبا، في سيرته الغامضة المبتورة تلمح ملامحه الجزائرية مئة بالمائة الوسيم العازم على فعل شيء ما والتحفز للتخطيط والتفكير، ملمح مناضل آخر الليل إذ يحضر الممثلين للبروفات التي قد تكون الأخيرة... غير أن الموساد الإسرائيلية ترصدته ذات شتاء سبعيني قارس وهو يهيم بامتطاء سيارته الرونو16/ بشارع فوش بباريس.. ثلاثتهم كانوا يمسرحون القتل ويملؤونه بسلال الورد والثقافة والجمال، كل على شاكلته... وشاكلتهم على تشابه... هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته