في ذلك المساء من شهر رمضان عام 1994، خرج عبد القادر علولة من منزله، متجها نحو دار الثقافة على الأقدام، كما هي عادته بوهران، ليلقي محاضرة حول تجربته المسرحية.. كانت الجزائر وقتها تعيش زمنا عصيبا، زمن الإرهاب الجنوني، ولحظتها التراجيدية الفعلية على الأرض.. وكان عبد القادر وهو الفنان الملتزم المبدع الإنساني يحتفظ بكل الأمل أن لا شيء يمكن أن يقف أمام مجانين الحكم والباربارية الأصولية الجديدة سوى المخيال الخلاق المؤمن بإبداعية الفرد ودينامية الجماعة الوطنية في سبيل مجتمع متعدد ثقافيا.. كان عبد القادر علولة كذلك يؤمن بالحب وقدرة الشباب على خلق مجتمع جديد مبني على الحب كبديل لمنطق الضغينة وثقافة الكراهية.. كان الوقت وقت ما بعد فطور رمضان.. كانت وهران خائفة وتعيش لحظات الشك والخوف.. أما عبد القادر فلقد كان مصمّما أن لا ينسحب من ساحة المعركة، معركة العقل والفن ضد الجهالة.. لكن هل كان يفكر لحظتها أن الجهالة العمياء كانت تنتظره متربصة به؟! ما الذي كان يحلم به عبد القادر علولة وهو متجه إلى دار الثقافة؟! تلك الرصاصة الحاقدة حالت دون ذلك اللقاء الجميل بين علولة وجمهوره.. لكنها مع ذلك لم تتمكن من القضاء على حلم الرجل الكبير بذلك الحب الذي كان يحمله بين جنبات قلبه، وتلك الإنسانية التي كانت تتسم بها مسيرته المسرحية، ومواقفه المنحازة للمستضعفين.. رفيقة دربه رجاء علولة ظلت وفية لمسيرة هذا الفنان الجزائري العظيم، ومبادرتها في إقامة احتفاء دراسي بالرجل يعتبر أهم تحية لهذا العملاق.. إذن موعدنا في منتصف مارس لتكريم صاحب "الخبزة" مجددا، والاحتفاء بإرثه الجمالي الخالد.. رجاء علولة ل "الجزائرنيوز": المرحوم عبد القادر علولة لم يأخذ حقه قالت رجاء علولة، زوجة المرحوم عبد القادر علولة، في هذا الحوار إن المرحوم ظاهرة فنية فريدة من نوعها ولا يمكنها أن تتكرر لتميزها، مضيفة في السياق ذاته أن المرحوم رغم إنجازاته المسرحية الرائعة على الساحة المسرحية الجزائرية لم يأخذ حقه وأصبح اسمه مرتبطا فقط بالمناسبات. كنتم قد أعلنتم عن التحضير للقاءات عبد القادر علولة التي سوف تنظم، منتصف شهر مارس القادم، إحياء لذكرى 20 سنة على اغتياله، أين وصلت التحضيرات؟ تسير مؤسسة عبد القادر علولة بجدية كبيرة لإنجاح هذه التظاهرة الثقافية، حيث أصدرت، مؤخرا، نداء دعت فيه جميع الفنانين باختلاف توجهاتهم للمشاركة في لقاءات عبد القادر علولة التي ستنظم من 13 إلى 15 من شهر مارس المقبل، وهذه اللقاءات عبارة عن بعث لعلولة إلى الوجود، خاصة وأن المرحوم كان عاشقا للفن بأنواعه المختلفة، وعليه ارتأت المؤسسة أن تجمع الفنانين من مسرحيين وسينمائيين وشعراء وراقصين وتشكلين... لعلها تبعث الفرح إلى النفوس. أما فيما يخص آخر المستجدات فإن إدارة المؤسسة اتصلت بوالي ولاية وهران ووعدنا بتوفير كل الإمكانيات المادية وستقام التظاهرة بدار الثقافة للولاية بمشاركة 06 عروض فنية. خاض الراحل علولة مسيرة طويلة من الإبداع والعطاء، هل أخذ حقه من الاهتمام؟ أعتبر المرحوم عبد القادر من الأشخاص المهمين الذين ساهموا إلى حد كبير في إثراء المسرح الجزائري، فأعماله المسرحية تظل صالحة لكل مكان وزمان ولا يمكن أن نتجاهل ذلك، فهي تعالج الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية بالمفهوم الواسع وبالأسلوب البسيط الذي يحمل العديد من المعاني والدلالات، فعلولة ترك بصمته الخاصة في مسار الحركة المسرحية الجزائرية، فهو المناضل من أجل مسرح أفضل، كما أنه ينتمي إلى زمرة العباقرة والمميزين لكن للأسف المرحوم لم يأخذ حقه، فالكثير من المسرحيين الجدد لا يعرفونه، كما أن روائعه المسرحية غير متوفرة بالشكل المطلوب وتكاد أن تكون منعدمة. كان يجب أن يدرس كرمز مسرحي في الجامعات وهذا للمكانة التي يستحقها، لكن رغم كل شيء يبقى علولة ورفقاؤه على غرار عبد الرحمن كاكي وعلال المحب من المناضلين الذين ضحوا من أجل مسرح واعد، وأتمنى من المهتمين أن تكون مثل هذه الرموز حاضرة باستمرار بالمشهد الثقافي الجزائري ولا يكون إحياء ذكراها فقط في المناسبات. كنت رفيقة عبد القادر ومخزن أسراره، ما هو الحلم الذي رحل قبل أن يصل إلى تحقيقه؟ يشهد الجميع للمرحوم أنه كان مناضلا يحمل أفكارا وأبعادا ذات معانٍ عميقة وهذا ما أثبته في إنجازاته الإبداعية وأعماله المسرحية، فكثيرا ما تحدث عن الحقرة واللا عدالة فهو كان يتجول بالقرى والمداشر المهمشة ويحتك بالطبقة البسيطة ليجسد معاناتها وآهاتها على الخشبة، لكن رغم الأعمال التي قدمها كان يرى نفسه لا يزال في مرحلة البحث ويطمح إلى تحقيق الكثير على الخشبة غير أن الموت كان أسرع منه. معروف عن علولة أنه مناضل بفنه من أجل قضايا الشعب، فكيف كان علولة الإنسان؟ كان الزوج المخلص والأب الحنون، فالمرحوم كان بمثابة "شيخ العائلة"، حيث الجميع كان يقدر مكانته ويسمع كلمته، كان شخصا متواضعا وخجولا، وكل من تعامل معه يدرك بأنه يتميز بأخلاق عالية، فعبد القادر رغم 20 سنة من الرحيل غير أن ذكراه لا تزال محفوظة في الأذهان عند الصغير قبل الكبير، رحمة الله عليه. علولة كان رفيقا لولد عبد الرحمان كاكي، كيف كان تأثير العلاقة في مسيرتهما الفنية؟ كل من علولة وعبد الرحمان كاكي وغيرهما من مسرحيي ذلك الجيل كان هدفهم الوحيد البحث عن فن مسرحي بمقاييس عالية ترقى إلى النظرة الإبداعية والجمالية التي تخلق الفرجة والشعور الجميل لدى المتلقي. أما الشيء الجميل عند كل من كاكي وعلولة أنهما كانا يجتمعان من أجل تبادل الخبرات والأفكار، فالهدف الوحيد الذي كان يجمعهما بناء مسرح على أرضية صلبة. ماهي الذكرى الجميلة التي تحتفظين بها عن عبد القادر علولة؟ بالنسبة إليّ عبد القادر علولة لم يمت، فهو لا يزال موجودا بيننا وذكراه العطرة ستبقى خالدة، وهذا ما تقوم بتجسيده مؤسسة علولة، إلى جانب ذلك فإن المرحوم مكسب ثقافي ومسرحي لكل الجزائريين والعرب عامة، أما الشيء الجميل الذي تركه لي شخصيا ابنتنا "رحاب" فهي الكنز العظيم الذي ورثته عن المرحوم، حيث أعتبر وجودها جزءا من عبد القادر، وأتمنى أن توفق في مسيرتها الدراسية فهي الآن بصدد تحضير رسالة الدكتوراه. حاورته: حفيظة عياشي غوثي عزري مدير المسرح الجهوي عبد القادر علولة بوهران ل "الجزائر نيوز": لا نزال أوفياء للمدرسة العلولية تحدث، غوثي عزري، مدير المسرح الجهوي لمدينة وهران، في هذا الحوار، باعتزاز وفخر عن الفنان الراحل عبد القادر علولة، الذي اعتبره مكسبا حقيقيا للمسرح الجزائري، وأنه من الأيقونات النادرة التي شكلت رصيدا ثقافيا ومسرحيا مهما، مضيفا أن علولة مدرسة قائمة بذاتها وأنه من النادرين الذين ساهموا في الصحوة المسرحية المواكبة للتحولات الثقافية والاجتماعية التي عرفتها البلاد. بعد مرور 20 سنة عن رحيل عبد القادر علولة، ماذا حملت ذاكرة المسرح الجزائري عن هذه المدرسة العريقة؟ أعتبر المسرحي العظيم علولة عميد المسرح الجزائري، ساهم الرجل في إثراء المشهد المسرحي الجزائري بأبعاده المختلفة، فهو أول من اكتشف مسرح الحلقة ونتج ذلك عن احتكاكه وقربه من الواقع الحي، حين كان يتنقل مع فرقته في جولات فنية لتقديم العروض خارج القاعات المسرحية، فهو كان في مرحلة البحث عن شكل جديد من أجل إبعاد العروض المسرحية عن التكرار الممل والخطاب السياسي المباشر الذي يكاد يحولها إلى بيانات سياسية. أعمال علولة لا تزال خالدة في ريبرتوار المسرح الجزائري، كما أنها أضافت الكثير لذاكرة المسرح، فمثلا نفتخر كثيرا بما أنجزه المسرح الجهوي لقسنطينة خلال تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، حيث بعث مسرحية "لجواد" في قالب مليء بالجمال والمتعة مع الحفاظ على الروح الإبداعية لعلولة، إلى جانب مسرح وهران، فهو الآخر قام ببعث العديد من الأعمال المسرحية لعلولة إلى الخشبة كمسرحية "السلطان"، التي لقيت بدورها اهتماما خاصا من حيث الجودة والتقنية العالية، وسجلت حضورا ملفتا في الكثير من المهرجانات على غرار مشاركتها بفرنسا، إيطاليا ومهرجان قرطاج بتونس. دون أن ننسى تشبع المسرح الهاوي بالجزائر بأفكار ومبادئ المدرسة العلولية. قدم المرحوم الكثير على خشبة المسرح، ألا يزال مسرح وهران وفيا لمدرسة عبد القادر علولة؟ هذا أكيد، لا يزال مسرح وهران وفيا لمدرسة علولة، كما أننا لا نزال كمسرحيين نعمل على مواصلة مسيرة الرجل الذي ضحى بحياته من أجل مسرح يتميز بنظرة واسعة الأفق وواضحة المعالم. وليكن في علم الجميع أن الوفاء لرجل بحجم العملاق علولة ليس بتقديم عروضه المسرحية وحسب، وإنما الوفاء إليه يكمن في تعميم أفكار ومبادئ المدرسة العلولية التي تتغلغل بدورها داخل عمق المجتمع لتكشف عن المستور، فعلولة الرمز كان يحمل في أعماقه أحلاما وطموحات كبيرة من أجل مسرح أفضل وهذا ما دفعنا كمسرحيين لإبقاء المرحوم بيننا، وبهذا الصدد فإن مسرح الجهوي للباهية وهران أبوابه مفتوحة طيلة أيام الأسبوع ويقوم خلالها بعرض كل يوم عمل من الأعمال المسرحية للمرحوم علولة، وعليه فإني أعتبر ذلك متابعة ومواصلة لمسرح علولة بمفهومه الواسع والعميق. خلف عبد القادر علولة تركة كبيرة من الأعمال المسرحية الرائعة للمسرح الوهراني، هل تعطينا لمحة عن ذلك؟ إن الأعمال المسرحية التي تركها الراحل علولة شكلت رصيدا ثقافيا ومسرحيا ضخما، مما وجد فيه المهتمون والمسرحيون على وجه الخصوص بأن الرجل مدرسة مسرحية بتقنيات عالية وسليمة التوجه، إلى جانب ذلك فإنني أعتبر المرحوم علولة من المسرحيين النادرين الذين حققوا الصحوة المسرحية المواكبة للتحولات الثقافية والاجتماعية، حيث كان اجتهاده المسرحي نوعا من النضال من أجل مسرح أفضل، وعليه فإن علولة قام بتمثيل العديد من المسرحيات من بينها: أولاد القصبة، الحياة والحلم، الكلاب، دون جوان.. وهذه من الأعمال التي كانت من إنتاج المسرح الوطني، فيما أخرج أيضا العديد من المسرحيات على غرار: الغولة، الشعب فاق بالواجب، الخبزة ورائعة لجواد، اللثام، الأقوال، التفاح... وغيرها من الأعمال المسرحية التي لا تزال راسخة في ذاكرة المسرح الجزائري. كما سجل الراحل حضوره في التمثيل السينمائي، عبر الأعمال التي أخرجها التلفزيون الجزائري مثل: أفلام، الكلاب، الطارفة، حسان نية... ما مصير الأعمال المسرحية التي لم يجسدها؟ أعتقد أن كل الأعمال المسرحية لعلولة، قام بإنجازها على ركح الخشبة الجزائرية ووجدت الكثير من التجاوب والاستحسان من طر ف المهتمين والنقاد، إلى جانب ذلك يشهد له بأن جل أعماله كانت مستفزة للطبقات العليا، فالرجل كان مؤمنا بقداسة المسرح وهذا من أقوى الأسباب لتحقيق كل أحلامه وطموحاته المسرحية، فهو كان دائم البحث عن الإبداع والجمال والمتعة، لكن يوجد عمل واحد لم ينجز وهو "العملاق"، وهو عبارة عن عمل إبداعي يتطرق في مجمله إلى العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر في سنوات التسعينيات وأعتقد أنه العمل الوحيد الذي كان مجرد فكرة لدى الراحل ولم ير النور. كيف هو جيل المسرحيين اليوم بالمقارنة بجيل علولة؟ لا يوجد وجه للمقارنة، فجيل علولة كان يؤمن بالمبادئ السامية للخشبة ولديه طموحات واسعة الأفق من أجل الصحوة والتغيير ومواكبة التحولات الثقافية، كما ذكرت سابقا فمثلا الرمز المسرحي علولة أعتبره تجربة متكاملة، حيث كانت تتوفر فيه العناصر الأساسية "ممثل، مخرج، مؤلف" وبالتالي كانت كتابته المسرحية تندرج ضمن الأعمال الأدبية المتكاملة ومن هذا المنطلق كان يعطي كل شبر من عمله قيمته الحقيقية، أما -وللأسف- ما نشاهده الآن من عروض مسرحية جد قصيرة وتعتمد على السينوغرافيا والكوريغرافيا طيلة العرض، عكس تماما ما كنا نتمتع به من عروض للجيل السابق الذي كان يقدم مسرحا ممزوجا بروح الشاعرية والجمالية، لذلك علينا كمبدعين الرجوع لمسرح النص الذي أعتبره المؤسس الأول لعرض مسرحي متكامل. ما هي الشهادة التي تقدمها عن علولة لجيل اليوم؟ بحكم أنني تعاملت معه لسنوات طويلة، فإن علولة إنسان عبقري في عمله، كما أنه عبقري في تواضعه وتصرفاته مع الآخرين، كان من الأشخاص الذين يفضلون العمل مع الفريق المسرحي وكان يؤمن كثيرا بمقولة "الغرور يقتل الإبداع". وماذا عن الإحصائيات حول الإنتاج المسرحي لمسرح وهران؟ أخذ المسرح الجهوي لمدينة وهران على عاتقه أن يواصل استمرار عملية الإبداع المسرحي، وعليه فإن أبواب المسرح مفتوحة طيلة أيام الأسبوع دون استثناء وقمنا بتخصيص مسرح خاص بالأطفال، وهذا أعتبره من الوفاء للراحل عبد القادر علولة، أما فيما يخص معدل العروض وصلت لتقديم 450 عرضا أي بمعدل 1.5 عرض يومي.