أكدت دراسة نفسية جديدة عن أسباب السعادة، أن القيام بما نحب يمثل أحد الأسباب الأساسية التي تشكل سعادة الأفراد والجماعات إلى جانب مساعدة الغير وأكل الأطباق المفضلة. قفزت إلى ذهني المعلومة وأنا عائد إلى بيتي مساء يوم الأحد الثالث والعشرين من الشهر المنصرم بعد انتهائي من تغطية الدورة الرابعة والثلاثين لصالون باريس على متن التراموي الذي اكتظ عن آخره بزواره السعداء. في تغطيتي الأخيرة (أنظر الجزائر نيوز ليومي الثلاثاء والأربعاء الخامس والسادس والعشرين من الشهر الجاري) التي تضاف إلى سلسلة طويلة من التغطيات التي قمت بها منذ 23 عاما لصحف جزائرية وعربية عديدة، وقفت من جديد عند صور تهافت الفرنسيين على الكتاب وهم في قمة نشوة لا يشعر بها إلا الذي يعرف قيمة وجبة القراءة معرفيا وروحيا وعاطفيا. الطوابير المعروفة في البلدان المتخلفة تعبيرا عن حاجات معيشية ومادية ناقصة ونادرة وأحيانا عن أخرى متوافرة لكن مطلوبة بقوة خرافية تحت وطأة استهلاك مرضي كما يحدث مع الخبز وقلب اللوز والزلابية عندنا باسم شهر رمضان كانت سيدة مشاهد حضارية سعدت بها طيلة الساعات التي قضيتها وسط أمواج بشرية تلاطمت بأدب وأريحية ودون تدافع وشكاوى أو ضجيج. لقد كانت أمواج كل أولئك الزوار الذين جاءوا من كل فج فرنسي وأوروبي وعالمي عميق يحجون إلى مكة الكتاب بإيمان وحب مطلقين تعبيرا على حاجة تشكل عند الكثير طقسا دينيا قائما بذاته رغم أن دساتير ومرجعيات أديانهم السماوية لا تبدأ بصورة إقرأ كما نص على ذلك خالقنا وحضارتنا التي تنطق بأمهات كتب خالدة في شتى أصناف الإبداع الفكري والأدبي. السعادة التي تهزم ماركس في مكة الكتاب الواقعة في منطقة بورت دو فرساي جنوب شرق باريس، عشت ساعات كثيرة اختلطت من خلالها سعادتي بسعادة المهرولين نحو الأجنحة المختلفة لدول يؤمن قادتها بعهدات حكم يتداوله كل القادة المؤمنين بدور ووطأة الكتاب في المجتمع تربويا وحضاريا بغض النظر عن درجة مستوياتهم الفكرية ومعتقداتهم وتوجهاتهم الإيديولوجية. شبعت عيناي إلى حد التخمة من مشاهد الوقوف في طوابير طويلة ومنظمة أو الجلوس من فرط التعب على الأرض في انتظار وصول هذا الواقف أو تلك الواقفة أو هذا الجالس أو تلك الجالسة إلى الكاتب الذي صنع سعادتهم ومثل هواجسهم ونوازعهم وأغنى مخيلاتهم ومدد أحلامهم وزاد من شغفهم الجنوني بالكلمة الساحرة والأفكار غير الجاهزة وبالشخصيات المرسومة على وقع وإيقاع قيم ومتغيرات العالم التي قد نختلف مع من صاغها لكن لا نملك إلا السقوط في أسر ها الأدبي كما أرغمنا على ذلك بروست وجويس وديكنز وسيلين وبودلير وهيغو ودوستفسكي وكامو وسارتر ووطار والأسواني والطيب صالح وآخرون سيطروا على الفن الروائي. في طوابير المؤمنين بدور الكتاب والمجانين العقلاء الذين يتحملون العناء اللذيذ من أجل التحدث مع كتابهم المفضلين والظفر بكتبهم موقعة بأحرف من ذهب لا مكان للجدل الإيديولوجي البيزنطي وللصراع الإثني والطبقي وينهزم ماركس المسكين هزيمة نكراء أمام آدميين ينتمون إلى كل الطبقات الاجتماعية. لقد رأيت وسط هذه الطوابير الشيخ والشاب والمرأة والطفل والكهل والجميلة الساحرة والشمطاء المنفرة والفقير والغني والقصير والطويل والأسمر والبني والأشقر والمعوق كما رأيت ذلك في معارض الفنون التشكيلية بمتحف اللوفر وغيره من المتاحف الفرنسية. لم يقف في الطوابير الأغنياء فقط، والسعادة التي غمرت ممثلي فئات اجتماعية أخرى كانت الجامع المشترك ولم يقف الصراع الطبقي عائقا في وجه تعايش حضاري هزم ماركس هزيمة نكراء. الوقوف أو الجلوس ساعات في طوابير السعادة كان فرصة للشروع في قراءة كتب المؤلفين الفرنسيين والأجانب الذين يأتون إلى صالون باريس للكتاب دوريا من شتى أنحاء العالم. العرب الأشقياء هم أقل ملة حضورا سواء تعلق الأمر بالكتاب أو القراء. الصراع الطبقي عندهم لا يدفع الأغنياء والفقراء للتهافت على الكتاب في كل الحالات. هل رأيتم مثلا بقارا جديدا في جزائر العهدات البوتفليقية الثلاث يقرأ كتابا في كتكاته الفاخرة الوسخة أو حارسا فقيرا يتصفح مجلة؟