قد يعود بنا الحديث عن الملاحق الثقافية للصحف، إلى العلاقة بين الصحافة المكتوبة والمادة الثقافية عموما، وهي علاقة متداخلة شهدت مدا وجزرا؛ عبر مراحلها المختلفة، امتدت منذ البدايات الأولى لظهور الصحافة المطبوعة من جرائد ومجلات. والحديث عن هذه العلاقة قد يطول ويتشعب؛ إلا أن المؤكد في الخلاصة أن للثقافة نصيب الأسد من المواضيع الصحفية عند نشأتها الأولى؛ وذلك على اعتبار أن الصحف المطبوعة قد ظهرت في بداياتها؛ كما لو كانت منافسة مباشرة للكتب والمخطوطات في تلك الفترة. ومن المؤكد أيضا أن هناك جرائد ومجلات قد اهتمت بالشأن الثقافي كأساس مادتها الأولى إلى جانب الأخبار السيارة. والسؤال الذي يطرح في الوقت الحالي هو: ما الذي جعل الصحف الورقية- هذه الأيام- تستغني عن المادة الثقافية، وتحتفي بمواد أخرى كالسياسة والاقتصاد والرياضة؟ ثم ما مصير ما يسمي بالملاحق الثقافية؛ التي ظهرت في فترة ما؛ في الصحف العربية المختلفة؟. إن المتتبع لشأن الملاحق الثقافية على امتداد خريطة الصحف العربية، سوف يدرك بأن ظهور هذه الملاحق وملابساتها قد مر بنفس الظروف والتطورات، مع فارق طفيف في الواقع المادي والتقني وبعض المؤثرات المحلية التي يختلف فيها الأمر -مثلا- بين دول الخليج ودول المغرب العربي، كما نسجل التقارب التاريخي في ظهور الملاحق الثقافية لمجموع الدول المذكورة. فإن أخذنا مثالا على ذلك ظهور الملحق الثقافي لجريدة "الفجر الإماراتية" والذي تأسس سنة 1979 (أيام الكاتب الكبير محمود السعدني) وبعدها بقليل ظهر ملحق جريدة الخليج (بإشراف المرحوم محمد الماغوط) فإن الملحق الثقافي لجريدة الجمهورية (بالجزائر) مثلا- قد ظهر سنة 1978(بإشراف كل من الأستاذين: الحبيب السائح وبالقاسم بن عبد لله) وهو الملحق الذي سيستمر لمدة عقد من الزمن؛ وهي- كذلك - الفترة التي شهدت ظهور ملاحق ثقافية لكل من جريدتي النصر والشعب. يقول الأستاذ بالقاسم بن عبد لله-؛ في معرض تأسفه عن حال الملاحق الثقافية والثقافة عموما: ((المادة الأدبية والفكرية والتاريخية والعلمية تتموقع وتتقوقع في ركنها المظلم المهمل المهمَّش، وقد غابت الملفات والملاحق الثقافية التي برزت وانتعشت أيام مجد صحفنا الوطنية: الشعب، الجمهورية، النصر، ثم الخبر والأحرار والشروق، الجزائر نيوز، لتفسح المجال واسعا أمام صفحات الإثارة والإشهار)) وهو السؤال الملح فعلا بعد أن أصبح بالجزائر مثلا حوالي 120 عنوان صحيفة ..أما إذا أردنا أن نتتبع وضعيات هذه الملاحق وما آلت إليه فسوف ندرك بأن لها نفس المصير، بل وتشترك كلها في التراجع الكبير عما كانت عليه سابقا؛ خاصة في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي؛ كما يمكن أن نقف عند عيِّنات من أقطار عربية مختلفة حتى نتحسس الحالة الصحية لملاحقها الثقافية.. فعن حالها بدولة "الأردن" - مثلا- نقرأ ما كتبه "الدكتور عبد الله الطوالبة" في "جراسا نيوز"((.. لم يعد مقبولا استمرار الملاحق الثقافية في الصحف اليومية على هذه الشاكلة، فمن الأولى التفكير في إخراجها من غرف الإنعاش.)) أما في "مصر" وهي مهد الصحف والنشريات الثقافية فنقرأ ما صدر عن "دار الإعلام العربية" نقلا عن "البيان": ((..يؤكد عدد من المثقفين والنقاد أن اختفاء صفحات الثقافة في صحف: روز اليوسف والأهرام المسائي والمصري اليوم، أدى إلى وقوع آخر الحصون التي كانت تختبئ خلفها تلك الصفحة، والتي لم يعد لها مكان في الصحف المصرية)). وفي ندوة خاصة بحالة الملاحق الثقافية في المملكة السعودية، نعرض بعض من تدخل الأستاذ السعيد الزهراني وهو المحرر الثقافي في صحيفة الجزيرة: ((..إن الصحافة الثقافية تعاني من التراخي، مع الأسف، وقد احتلت وفق إحدى الدراسات المرتبة الخامسة بعد الصحافة الرياضية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية رغم أنها صحافة فكر ورؤية وتحليل)). والأمر لا يختلف عما ذكرناه بالنسبة لدول المغرب العربي - أيضا-، وكنا قد أشرنا إلى وضعية الصفحات والملاحق الثقافية في الجزائر. أما في المملكة المغربية- وهي من الدول المغاربية التي تشهد حراكا ثقافيا لافتا، فيمكن أن نستشهد بما ورد في "صحيفة المساء" (المغربية): ((..العلاقة بين الصحافي والثقافي في المغرب عرفت تذبذبا و«توترات" دفعت إلى تهميش الثقافة وتجاهلها كلية.. ووضعها ضمن آخر أولويات عدد من الجرائد..)). ومما سبق ذكره من عينات الملاحق الثقافية للدول العربية نستخلص بأننا أمام ظاهرة إعلامية (ثقافية) سلبية تسجَّل على الإعلام العربي المكتوب، وبالتحديد على تلك الصحف الورقية التي أدارت ظهرها للصفحات والملاحق الثقافية؛ متجهة نحو مواد إعلامية أخرى لعل أهمها الرياضة والسياسة. أما السؤال المنطقي الذي يفرض نفسه -علميا- هو: ما سبب انتشار هذه الظاهرة الإعلامية، أي: ما سبب تراجع المادة الثقافية في التحرير الصحفي لجرائدنا العربية ؟ وهو السؤال الراهن الذي أصبح محلَّ طرحٍ في العديد من المناسبات الثقافية على امتداد الخارطة الثقافية العربية. ولعل الجواب على هذا السؤال قد يؤدي بالمتتبع إلى التطويف عبر سياسات التحرير الصحفي من دولة إلى أخرى؛ على الرغم من القواسم المشتركة الكثيرة والتي أدت إلى انتشار هذه الظاهرة الثقافية السلبية. وهو ما يدفع بنا نحو الاجتهاد في حصر بعض الأسباب التي نراها مؤثرة في انتشار هذه الظاهرة.. قد تختلف الأسباب من بيئة ثقافية إلى أخرى، إلا أن أغلبها ينحصر بين التغيرات الحضارية والتي مسَّت الأفكار والسلوكات الحديثة وبين التغيير التقني والاتصالي الذي أصبح يتحكم في العملية الإعلامية بِرُمَّتها. ونفصل في ذلك كما يلي: غياب القراءة الحقيقية والمسؤولة للمشهد الثقافي وأهميته في تفعيل الدور التنويري بما في ذلك تبني القضايا الفكرية والحضارية المؤثرة في الفكر نحو التطور والارتقاء بالإنسان العربي كهدف تنموي أساسي. سيادة الفكر الرِّبْحي (المادي) الذي سيطر على عقلية المحررين خاصة في الصحف الخاصة مما يجعلهم يسارعون إلى نشر المادة الإعلامية والتي من ورائها جمهورها الأكثر (مهما كان نوعه) وتدخل مع ذلك مواد الإشهار الدعائي ومواد الإثارات الأخرى والتي يمكن أن تلغى من أجلها الصفحات الثقافية التي ينظر لها على أنها معدومة المردود المادي، كما أن جمهورها نخبوي محدود.!. حتى وإن سلَّمنا بأن الوسائط الرقمية لا تلغي المنابر الثقافية الورقية؛ إلا أن الثقافة الالكترونية تبقى هي السبب المباشر في تراجع وانكماش الملاحق الثقافية، وتقليص عدد روادها، خاصة أن الأرقام تؤكد بأن عدد المترددين على"الانترنت" هو أكثر بكثير مما يطبع من أعداد الصحف. غياب التحفيز المعنوي والمادي؛ إذا علمنا بأن أغلب ما ينشر في هذه المنابر لا يتحصل كاتبه على مقابل، مما أدى إلى غياب النقد المتخصص وغياب الجامعيين المتخصصين في الأدب -مثلا- إذا علمنا أن البعض منهم منشغل بمحاضراته كمحصلة لراتبه الشهري. في انتظار تحفيز "ما" يعيده إلى المنابر الثقافية الأخرى.. من الأسباب التي تتواجد بشكل نسبي وقد تخلف من منطقة إلى أخرى نذكر: العقلية التقليدية للمشرفين على التحرير الثقافي والتي لا تواكب التحديث المتبع في السياسة والرياضة مثلا. إضافة إلى خضوع النشر- في بعض الصحف - إلى المزاجية وعدم الأخذ بالجودة والأهمية، بل أكثر معايير النشر تؤهلها الروابط الشخصية والمصالح المتبادلة والخضوع لأصحاب المنابر... هذه جملة من الأسباب التي يمكن أن يقف عندها المتتبع والدارس، وقد تكون هناك أسباب أخرى إذ الأمر يختلف حسب خصوصية الوسط الإعلامي وسياسات التحرير. والسؤال الذي يطرح مرة أخرى هو: إلى متى ونحن نشتكي حال العطب الثقافي عندنا ؟ وإلى متى ونحن نركن المادة الثقافية جانبا، ونفكر بما هو مادي وربحي؟ وهل يمكن أن نتقدم ونبني حضارة على أساس (خواء) ثقافي وفكري ؟!. وهل حان الأوان لكي نستثمر في الإنسان العربي؛ على أن نضعه في أولى اهتماماتنا التنموية، بدل تشييد القصور والمباني الضخمة. وهل يمكن أن ندرس الأولويات بمنطق الوعي الإنساني المدرك لمرامي البرامج الوطنية وأهدافها ؟.. إنها الأسئلة الحضارية الجوهرية التي ينبغي الوقوف عندها، كما أن هناك العديد من الأسئلة (المُحرجة) التي يمكن أن تطرح على مسؤولي السياسات الثقافية ومسيِّريها، قبل أن تطرح على صانعي الثقافة ومبدعيها في البلاد العربية....