"المشكل تاعي ماهوش مشكل تاع بطاطا، المشكل تاعي هو مشكل تاع سيونس بوليتيك".. مواطن جزائري إنّ الحراك نحو التغيير قد بدأ في أغلب الدول العربية من شرارة في القاعدة، فهل تكون الجزائر استثناء مرة أخرى ويكون الحراك نحو التغيير قد بدأ من أعلى نقطة في هرم الدولة، وهي رأس رئيس الجمهورية ؟ إنّ الجلطة الدماغية التي تعرض لها رئيس الجمهورية في أفريل الماضي، واستدعت نقله إلى المستشفيات العسكرية للمُستعمر القديم، وغيابه عن البلد ثم عودته وإعلانه عن تعديلات في جهاز الإستعلامات والأمن ثم ترشحه لعهدة رابعة، قد دفع على الأقل المجتمع المدني إلى التململ وإن كان ذلك بشكل محتشم وأعاد الإهتمام بالسياسة تدريجيا للشباب. لكن لماذا يتّسم النظام السياسي الجزائري بكل هذه الضبابية (الصمت، غياب الصورة، الإشاعات...)؟، إنّ لهذا النظام السياسي رغم كلّ هذه الضبابية خصائص معيّنة، قد نستشف بعضها من تحليل تجربة الجزائر المستقلة والبعض الآخر من تحليل التشابه بين التنظيم السياسي والعسكري في الجزائر خاصة لجبهة التحرير الوطني قبل 1962، وبين أنماط التسيير في الجزائر بعد 1962، لنعرف أنّ 1962، تاريخ استقلال الجزائر، لم يكن تماما تاريخا يعني القطيعة التامة عن ما قبله على الأقل على مستوى الممارسات والتمثلات، سنحاول لمس هذا سريعا عبر ذكر أربع ملاحظات نقرأ دلالاتها في الحقل السياسي والتي قد تجعلنا نحاول أن نفهم لماذا لا يحصل أي تغيير في الجزائر ولماذا هو عسير إلى هذه الدرجة. النخبة ... الغياب التاريخي إنّ صياغة الأسئلة التاريخية والإجتماعية والسياسية في أي مجتمع، هو أمر موكل وإن لم يكن بشكل حصري للنخب المثقفة، وإنّ تكوّن هذه النخب يخضع إلى قوانين ما، لقد شرحتُ في مقالين نشرا في جريدة الخبر الجزائرية، ما أعتقد أنّه الفرصتين التاريخيتين الضائعتين لتكوّن نخب جزائرية مثقفة متماسكة، إننا نعتقد أنّ ولادة جيل من المثقفين هو استجابة طبيعية لأزمة عامة متعددة الأوجه، وليس معنى الأزمة هنا الإنسداد ولكن التحولات التاريخية العميقة التي يمر بها مجتمع ما، ونعتقد أن هذا الجيل قد ظهر في الجزائر سنوات السبعينات بعد الأزمة التاريخية العامة التي مرّت بها الجزائر من سنة 1955 (إتساع الثورة وبدء القصف والمعارك والتهجير ...) إلى حدود 1970 (إستقرار نسبي للنظام السياسي، ترسيم الحدود، تأميم البترول، محاصرة الأمراض والأوبئة ...) لكن ظهور هذا الجيل (إضافة إلى المشاكل الداخلية الخاصة به كاللغة والمثال/النموذج والسياق الفكري العالمي السائد آنذاك) قد قابلته إرادة سياسية واضحة في استعمال المثقف كإداري أو كتقني فقط وأدلجته وإبعاد وقتل ونفي آخرين وإنهاء وتفكيك كل حركة ذاتية التفكير/ ذاتية الإرادة (حل الأحزاب والمنظمات والنقابات المستقلة: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي كان سيكون دورها حاسما في تحييد الجانب الديني من أزمة غرداية الحالية بصفتها المرجعية الدينية الجزائرية، إتحاد الطلبة ...)، هكذا ضيّعت الجزائر فرصة تكوّن نخبة مثقفة متماسكة بعد الإستقلال كانت ستساعد في فهم الجزائر وتفكيك تحوّلاتها، واقتراح نماذج وحلول لمشاكلها، لقد كانت كلّ الحلول المقترحة والمطبقة من طرف النظام السياسي في السبعينات والثمانينات غير كافية وغير ملائمة لأزمة الجزائر وتطلعاتها وعبّرت عن فشل ذريع للنظام السياسي وللنخب الحاكمة، وقد عادت هذه الأزمة للإنفجار في صورة أزمة إقتصادية كانت ذروتها أحداث أكتوبر 1988، ولّدت هي أيضا جيلا من المثقفين، تمّت تصفيتهم بشكل ممنهج في سنوات التسعينات، هكذا ضيّعت الجزائر مرة أخرى فرصة تكوّن نخب مثقفة أكثر انفتاحا وأكثر قربا من تحوّلات المجتمع الجزائري. إنّ النظام السياسي اليوم، ومنذ عقد ونصف، ينتهج سياسة تجعل حتى من ظروف تكوّن المثقف منعدمة، وذلك عبر سحق طبقة متوسّطة، تمييع الوسط الجامعي عبر بناء مركبات جامعية ضخمة (الجزائر تستعد لاستقبال مليوني طالب في الدخول الجامعي المقبل شهر سبتمبر القادم، في حين أن عددهم كان 333772 طالبا سنة 1998) خارج المدن وفصلها تماما عن جسد المدينة (الكثير من المركبات الجامعية لا تستطيع أن تجد فيها جريدة يومية أو مجلة ...) وإغراقها بعدد كبير من الطلبة لا يتناسب مع هيئة التدريس، وتوسيع هذه الأخيرة في ظرف قياسي وتمييعها، بذلك أصبحت الجامعة الجزائرية بعد أن فقدت هويتها مجرّد مصنع كبير لتخريج تقنيين مشكوك في كفاءتهم أو لا تتناسب كفاءاتهم مع طلبات سوق العمل (الخطاب السياسي يدفع نحو هذا الطرح وهو أن لا وظيفة للجامعة غير التناغم مع سوق العمل)، وكذلك محاصرة الحقل الثقافي ومنابر النقاش العام بصفة عامة وبأشكال عدّة، الإشهار للجرائد (عبر الوكالة الوطنية للنشر والإشهار)، الدعم لدور نشر الكتاب، استقطاب المثقفين والكتاب وتوظيفهم في الأجهزة الحكومية، حصرية العمل الثقافي (غالبا في وجهه الفولكلوري) في الهيئات الحكومية مما يحدّ من حريته في كل شيء (تكاد تكون المهرجانات والأيام السينمائية والتظاهرات المستقلة منعدمة في الجزائر). إنّ غياب هذه النخبة، أدى إلى فقر في تحليل وتفكيك التجربة الجزائرية سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، إنّ الجزائر ولا شك اليوم تفتقد أشدّ الإفتقاد من تمت تصفيتهم في التسعينيات مثل جيلالي اليابس عالم الإجتماع الكبير والبروفيسور محفوظ بوسبسي المختص في الأمراض العقلية صاحب البحوث الجادة والعميقة في قراءة تحولات الجزائريين النفسية وإيجاد مكان لإختصاص الأمراض العقلية في مشروع المجتمع الجزائري وعضو اللجنة الوطنية لمناهضة التعذيب وبختي بن عودة مشروع الفيلسوف والعامل على المفاهيم وتحولاتها في الجزائر وأمحمد بوخبزة الباحث في النخب الإقتصادية والدارس لتحوّلات المجتمع الإقتصادية بعد الإستقلال وعبد القادر علولة الذي حاول أن يصنع خصوصية لمسرح جزائري والروائي والطاهر جاووت وسعيد شيخي وغيرهم، الذين كانوا يحملون مشروعا حقيقيا لتفكيك/تفكير/فهم الجزائر. تقنين الصمت إنّ مجتمعا ما يدخل من جديد التاريخ عندما يتمثّله كإرادة إنسانية لا كأحداث يتحمّلها أفراده أو أمرا واقعا يخضعون له، وأقصد بالإرادة هنا، إرادة الشعب وإرادة النخب التي تحمل مشروع مجتمع بصفة عامة، وإنّ هذا يجب أن يبدأ من المستوى الخطابي للطبقة السياسية والمثقفين والجامعيين، إلا أنّ المتأمل لخطاب الأولى في الجزائر يجد العكس تماما، فخلافا للإرتداد السريع والقوي على المستوى الخطابي إلى الثورة التحريرية وأمجادها كلحظة اكتمال تاريخية لا يجوز ولا يمكن تجاوزها، الأمر الذي يضع أجيالا عديدة أمام المستحيل أو المحظور، نلمس إلغاء الإرادة الإنسانية وما يتبعها من مسؤولية أيضا، في التعبير عن عشر سنوات من الحرب الداخلية مثلا في الخطاب السياسي أو حتى في المواثيق والخطابات الرسمية، إنّ "المأساة الوطنية" أو "العشرية السوداء" لا تحيل على أيّ فاعل إنسان، بل الأمر يشبه الإحالة إلى كارثة طبيعية يتساوى الجميع في الخضوع لها، إنّنا بهذا لا نلغي فقط مفهوم المسؤولية من عقول الناس ومن لاوعيهم الجمعي، بل نساهم في محو التاريخ الذي سيسأل عنه من يحكمون الجزائر اليوم. إنّ هذا الصمت، قد تمّ تقنينه في ميثاق المصالحة الوطنية، حيث يعاقب بغرامة وبالسجن كل من يتناول هذه الفترة بداعي زعزعة الإستقرار الوطني ويدخل في هذا عمل الصحفيين والمفكرين والمؤرخين وكل من عاش ولم ينس، حيث تصف هذا كريمة بنون، أستاذة القانون الدولي في جامعة كاليفورنيا، بأنه "نسيان مفروض"، لأنّ هذا حسبها "يضعنا في تناقض، حيث يُفرض نسيان رسمي على مجتمع، كل شخص ينتمي إليه يفوق سنه الخمسة عشر لم ينس" (أنظر الحوار في جريدة الوطن الناطقة بالفرنسية يوم 26 جانفي 2013) إنّ هذا الصمت المُقنن لا يظهر فقط في التعامل مع الحرب الأهلية الجزائرية، بل يتجاوزه إلى كل تاريخ الجزائر المستقلة، يمكننا أن نتساءل إلى أي حد ورث النظام السياسي الجزائري المكوّن في أغلبيته في صفوف حزب جبهة التحرير الوطني، مميزات العمل السري (أثناء الإستعمار) في جبهة التحرير الوطني وفي أحزاب أخرى، خاصة إذا اعتبرنا أن الأول هو وريث للثانية واستمرارية تاريخية لها ؟ دي أر أس ؟.. اللا مرئي الذي يخلق الأسطورة إنّ غياب النخبة التاريخي وتقنين الصمت، قد ساهما في ضبابية النظام السياسي وأسطرته، كما أنّ السعي وراء تحليل النظام السياسي الجزائري وتشخيصه وشخصنته في بعض الأحيان، ومعرفة مصدر القرار الفاعل أو الفعلي فيه، قد قاد بعض الصحفيين وبعض المختصين في العلوم السياسية إلى إلقاء المزيد من الضبابية عليه، إنّ بعض هؤلاء يلقون في أذهان قرائهم كلّ ما من شأنه أن يقرّب استحالة الفهم، فقد كان تناول الجنرال توفيق على صفحات جرائد وطنية منذ فترة أحيانا أسوء من عدم تناوله، فالشيء الذي يخرج به القارئ أنّ الدي أر أس أو الجنرال توفيق هو حقا إله "رب الدزاير" (كما ورد في رسالة السيّد مالطي في جريدة الوطن الناطقة بالفرنسية) فهو الذي لاصورة له ولا صوت ويفعل ما يريد ويوجد في كل مكان، وإنّنا نعلم جميعا ما للرب من صفات أخرى، وإنّ هذا قد خدم أطرافا أخرى غيره وأبعدها عن الصورة، وجعل أهمّ شيء ضروري للتغيير غير موجود وهو الصورة التي يتجسّد فيها النظام. إنّ التغيير الأخير الذي تمّ في جهاز الإستعلامات والأمن، يمكن أن يؤدي ثلاث وظائف وهي الإيهام بوجود صراع بين الرئاسة وجهاز المخابرات - لتأجيل والتشويش على أي انتباه أو تحرك للشارع والنخب - مُمثلَين في شخصي بوتفليقة والجنرال توفيق، والذي يتغلّب فيه الأوّل بنزع بعض الصلاحيات من الأخير (من المحتمل أن يكون هذا التغيير قد قُرر قبل هذا لدواع تفرضها احتياجات الجيش الميدانية المتزايدة والمتنوعة بعد تفكك السلطة في ليبيا والوضع الأمني المتردي في شمال مالي والنشاط المقلق لجماعات مسلحة على الحدود مع تونس، تكون قد أكّدتها أزمة تيغنتورين، وتمّ استغلال هذا التغيير سياسيا)، وهذه هي الفائدة الثانية، حيث يعطي هذا انطباعا أيضا عن قوة الرئيس وحضوره بعد مرضه وغيابه الطويل وموضوعيا بدء حملته الإنتخابية مبكرا، الوظيفة الثالثة هي تفكيك الصورة التي يتجسّد فيها النظام وتشتيتها. إنّ مرض الرئيس وأزمة تيغنتورين مثلا، قد أكدا ما تحتله الصورة من أهمية عند الموجودين في هرم السلطة، سواء بمنعها ومحاصرتها أو ببثّها، وأنّ الصمت عن الحقيقة والصمت عن الشائعات واتخاذ القرارات السياسية دائما في آخر لحظة (كإعلان ترشح الرئيس الحالي لعهدة رابعة، أو إعلان قانون الإنتخابات قبل التشريعيات الماضية بوقت قصير) لعدم منح أي فرصة لتشكل موقف أو جبهة معارضة أو نمو بديل ما، هي ميزات أساسية لهذا النظام السياسي، وهنا مسؤولية أخرى في النقد والتفكيك تُلقى على عاتق المختصين في العلوم الإجتماعية والصحفيين والسياسيين. "راهم يديرو في البوليتيك !".. كيف نُعزل الشعب عن السياسة إنّ لل "Bolitique" وهو المرادف الفرنسي لكلمة السياسة بالعربية منطوقا بحرف الباء العربي، معان في المجتمع الجزائري وعند النخب السياسية، قد أزيحت تماما عن معناها الأوّل وأصبحت تحمل دلالات أخرى، فهذا يعني في كثير من الحالات عندما نقول إنّ أحدهم "يدير في البوليتيك" إنّه يمكر أو يمارس التدليس أو المحظور، إنّنا نجد بكل تأكيد جذور هذا التمثّل، تمثّل السياسة كعيب أو كشيء محظور أو دنيئ، في فترة دكتاتورية الحزب الواحد وبومدين ثمّ في المثال والأداء السيء الذي يقدمه رجال السياسة وغرقهم في الفضائح وسوء التسيير منذ الثمانينات، ولكننا قد نجد هذا أيضا فيما ترسّب بصفة عامة من قبل الإستقلال من فشل لكلّ النضالات السياسية، إنّ هذا قد أُستغل جيدا وأصبح تهمة صريحة بعد فشل التجربة التعددية السياسية في بداية التسعينات، وذلك مع سعي النظام إلى إبعاد أجيال متتالية عن كلّ ما يمت إلى السياسة بصلة، حتى بدى أنّ الكثير من هذه الأجيال قد صدّقت فعلا أنّ ممارسة السياسة هي جرم. بعد تصريحات مسؤولين عديدين في الدولة إثر احتجاج البطالين في الجنوب واتهامهم لهم بممارسة السياسة "راهم يديرو في البوليتيك" (لقد كان هذا تصريح الوزير الأوّل عبد المالك سلال في بداية الإحتجاجات في الجنوب) كان ملفتا أن نقرأ رد فعل منسق اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق البطالين في جواب له عن سؤال حول وجود من يتهمونه بتسييس المطالب الإجتماعية لشباب منطقة الجنوب، في حوار نُشر في موقع الشروق أون لاين يوم 12 مارس 2013 بأنّه "... لدينا مطالب إجتماعية وليس لدينا أي علاقة بالسياسة"، يعود نفس المنسق ليقول في حوار نُشر يوم 02 أفريل 2013 على نفس الموقع مجيبا على سؤال حول ما إذا كان محتجون في ولاية الوادي قد رفعوا شعارات سياسية : "إن الفساد في الجزائر منظومة كاملة متكاملة والمشكلة بدرجة أولى سياسية ... لا حرج علينا من رفع شعارات سياسية مادام الفساد سياسيا". إنّ التحولات التي يعيشها العالم العربي، وشيخوخة الطبقة السياسية في الجزائر وبدء تنظيم المجتمع المدني وإن بصعوبة بالغة وارتفاع صوته وسقف مطالبه واحتلاله تدريجيا الفضاءات العمومية (لقد كان ملفتا أيضا كيف تمّ استغلال الفضاءات العمومية في الجزائر العاصمة وشغلها من طرف بعض الوزارات والهيئات الحكومية بعد الربيع العربي)، والطريقة التي تصرفت بها السلطة في مرض الرئيس، وفشل الطبقة السياسية الذريع في حل مشاكل تتخبّط فيها الجزائر دولة ومجتمعا منذ الإستقلال، ورغم كل ما سبق أن ذكرناه من ضبابية وصمت وأسطرة للنظام السياسي، قد جعلت أصوات من يدعون لضرورة التغيير تُسمع أكثر وتُقنع قطاعات أوسع في المجتمع، لكن هل سيكون التغيير هذه المرة داخل النظام أم تغييرا لأسس النظام كله؟. بعض أجزاء المقال هو مشروع بحث أكاديمي للكاتب