أكثر من خمسين سنة على انقضائه من مسرح الحياة، وأكثر من مئة عام على النظرية النسبية وأكثر من بصمة وبصمات تركها المذهل، العبقري، المخطوف بسحره الفيزيائي وشبقه المعرفي، ألبرت أينشتاين، لقد ناهز عمرا سبعينية كاملة وتزيد، توفي في 18 أفريل 1955، وقد كان ميلاده في عام 1879، سبعينية تضمنت حقبات فائقة التطور في العلوم والكشوفات، في الفنون وفلسفاتها، في الفلسفة ومذاهبها، قبلها وخلالها وما بعدهما كان اسبينوزا وفرويد وكيركغاردو وبيكاسو، روسل وكانط وهيغل، نيتشه وهايدغر، سارتر وكامو وهابرماس وإدوارد سعيد. في أكثر من مئوية قبلها بقليل وبعدها بقليل ظهرت إشراقاته ولمعاته وجنوناته بلا روابط عضوية وزمنية واشتباهات أسماء والتباسات حقول وتدامجات بؤرات، بل هو العصر وأمثاله ممن هيئوا لطفرات غير عادية، متوحشة، غير مأمونة النهاية، غير موحية بخلاص أو خاتمة أو جنازة أخيرة، فمع قادة الفكر والعلم والفلسفة والفن يظهر دائما هتلريون وأتباع لهم، موسولينيون وأعوان لهم، ديغوليون ومعاونون لهم، وبين من يؤسس لحياة ملؤها العلم وثوراته وبين من يهوي على الأرض بفأسه وخرابه ترنحت البشرية وخاف الإنسان وهرول الولدان وصاحب الشيبة والمرأة.. في المستشفى التابع لجامعة برنستون، في رف من رفوفه، هناك وعاء زجاجي مملوء بسائل كدر تبحر فيه قطعة من جسم أحد البشر، أحد البشر هذا ليس عتالا، أو محاربا، أو إسكافيا، أو ممثل سينما، أحد البشر هذا هو السيد صاحب الغبطة المعرفية ألبرت أينشتاين والقطعة السائلة هي جزء من مخه، مخ العبقري المذهل في براءة الأطفال والمجاذيب، قطعة صغيرة، شريحة رقيقة، مصبوغة بمادة ملونة، ظلت إلى الحين تستهوي الناظرين، ويشد إليها الرحال من فجاج عميقة، غير أن القصة الأروع هي في الجزء الثاني فتلك الأولى هي مجرد حلقة أضعف في سيرة سلطان العلماء ألبرت.. إن ما تبقى من قطعة وهي الأكبر من مخه -مخ الألماني غير الألماني- حللها الدكتور توماس هارفي، قطعها، أحال فيها البصر والنظر، العدسة والمجهر لزمن راح يطول ولوقت من البحث والتفرغ راح يهدر مع لفيف من الباحثين الذين لم يجدوا غير ضرب الأخماس بالأسداس والحيرة الخائبة، "مخ رجل عجوز متوسط الطول وذي بنية عادية ويعاني من بدايات الهتر" يشبه السائل الثمين الموضوع في قارورة مصفحة الجراثيم وضد الزمن في رف من رفوف مختبرات جامعة برنستون يشبه العطور الفرعونية، تزييف أركيولوجي يصطاد به العاثر عن الخط في الفيزياء والكيمياء وفي النظرية النسبية والرياضيات، هؤلاء الذين أجابهم السيد صاحب الغبطة المعرفية يوما بقوله "ليست لدي قدرات خارقة أبدا، إن كل ما في الأمر هو أني أكثر من الآخرين ميلا إلى الريبة والتشكيك وحب الاستطلاع".. لم يسبق أينشتاين مرحلة في النشأة ولا قفز بمخه أميالا من غيره، لقد كان به مس من تخلف ذهني مفترض مع تأتأة لم يتخلص منها وهو بعد في الثالثة من عمره، وفي التاسعة شابت كلماته بعض ما ينطق الرضع، يدخل مدرسة في مدينة ميونيخ كما يخرج منها بائسا لا يصلح لشيء كما قال عنه هيرمان والده، الأمر سيان، لا مهنة يصلح لها ألبرت، وألبرت يتنحى جانبا كاسرا اليقين المدرسي، متحديا الشرعية التربوية ذات المنحى الدوغمائي كي يبرع في حل المسائل الفيزيائية والتسلي بنظريات الفراغ، إن قوة في الفضاء تقوم بالتأثير على إبرة البوصلة وتوجهها، والبوصلة هذه حكايته التي أغرم بها فبسببها بلغ الأعالي، نسج طريقه لوحده، مع كتب كانت تصله وأوراق خارج الدرس التعليمي كان يمنحها الاهتمام الاستثنائي والجهد والأفضلية. عاش ألبرت على هامش المدرسة وأفكار معلميها، فلقد كانوا عنده مبعث الحقارة والسخرية وهؤلاء المتماهون في النموذج العسكري الذين لا يطلبون منك إلا رد التحية والسلام، رد ما علموك إياه والسلام، نمط حياة بروسية، في مدينة أولم الواقعة في الطرف الجنوبي الغربي من ألمانيا -محافظة- كاثوليكية، كان يقول عن هذه المدرسة إنها الترهات والأباطيل، وعاش هكذا مراهقته، نزق علمي حاد، طيش فكري لا تقره الثانوية التي تربي أشبالها على عظمة الوطن وتفوقه، إن العبقري واصل يكرر فشله حتى في امتحان الدخول إلى الجامعة التكنولوجية بمدينة زوريخ بسويسرا وواصل يغيب عن المحاضرات بعدما عبر إلى مرحلة تعليمية أخرى، كما واصل يكره أساتذته ويكرهونه وقد كان ينوبهم إذا لم يحضروا في سخرية كونية تتكرر فقط مع عباقرة من أمثاله. شؤم لازمه، نحس تعقب خطاه، هذا المواطن السويسري الجديد الذي رفض عظمة ألمانيا وتفوقها العنصري الكاذب حتى حصل على وظيفة قارة في مختبرات براءة الاختراع، تلك المؤسسة التي صقلته وشذبت بعضا من مروقه على النص ومؤسساته، حيث سجل للدكتوراه ونالها وسجل أحرفه الأولى في الاجتهادات التي بدأ العالم يحيطها بالتقدير وحسن التتبع عن تفسيراته للظاهرة الكهروضوئية، ولطبيعة المكان والزمان، ولديناميكا حركة الأجسام، فضلا عن ميكانيكا الكم ونظرية المجال الموحد.. لقد تزوج أينشتاين من ميليفيا ماريا، زيجة لم يتحدث عنها كثيرا، اختار التناسي والتحاشي في أسباب فراقه عن ميليفيا التي لم تفهم مطلقا نظرياته الفيزيائية ولم تفهم أيضا سر إهماله لشؤون الحياة اليومية ودقائقها، إن انفصاله عن رفيقته الصربية، عزفه على الكمان، عشقه للحرية كوالده الذي طالما انشغف بشيلر وهاينه والجعة البافارية وكذا حزم أمه الملفت في أن يكون محبا للموسيقى ناهيك عن نفرته عن الصداقات التي كانت تنشأ واهية وتذهب إلى حتفها، تفاصيل قليلة الأهمية عنده، سيرها بعبقريته المنحرفة، فذات مرة كتب إلى ماري كوري يعبر لها عن عطفه لدى إعلان علاقتها الغرامية بمتزوج "لا تسخري مني إن كتبت عنك من دون وجود شيء حقيقي أقوله، لكن كم أنا غضبان للمس الدنيء الذي نحاه العامة في الآونة الأخيرة حيالك..." وهي نثارات من سيرة حياته مجمعة من هنا وهناك كي تشي وتفضح، كي تكشف وتهتك ستر قلب رجل النسبية والطاقة المشعة والترددات الكهرومغناطيسية. عانى الفيزيائي ما عاناه من السياسة وأساليبها الاستعمالية ورسائلها الباهتة، فعندما التمع ألبرت أكثر مالت القومية الألمانية المتعجرفة إلى كرهه، وانغوت الحركة الصهيونية بأصوله واستطاع وايزمن إقناعه بالذهاب إلى العالم الجديد، إذ كانت حفاوة الولاياتالمتحدةالأمريكية به لا توصف، ورفعته جامعة برنستون رفعة العظماء وكذلك في بريطانيا إذ استقبله برناردشو، وكلل بالأزهار ضريح إسحاق نيوتن وهو يغمغم بإنجليزية كارثية، فلم تكن له من طلاقة بلاغية إذا تحدث بألمانيته الممقوتة.. لقد كان ألبرت يحب العزف وموتسارت يحب الزوارق الشراعية وغير مبال بفن السباحة، لا تخيفه تقلبات الطقس، يكره هتلر والحرب، كان يقول عن المهاتما غاندي "إنه يجسد العبقرية السياسية الفذة لحضارتنا"، وتبعا لذلك كان على حدة لا توصف من مؤسسات العسكر "تسمى أسوأ المؤسسات الجماعية بالجيش، وأنا أمقتها، وإذا كان هنالك من رجل بإمكانه الإحساس بالمتعة، وهو يمر في استعراض، على نغمات الموسيقى فإني أحتقره، لأنه لا يستحق مخا بشريا ما دام يكفيه النخاع الشوكي". جاء على العالم بالطاقة وهي تتحول إلى قنبلة وبنظريات المجال والميكانيكا والترددات والظواهر الضوئية وهو الذي كان يرفض المدرسة والتشريع، الجامعة والعسكر، الحرب ورجالها، الأصدقاء وثرثراتهم، الألمان وجهوزيتهم للبطش والتنكيل، .. في سكرات موته ظل على وفاء لذلك الشيء الوحيد الذي لم يتركه ولم يتوان عن التحجي به مذ عمره الثالثة إلى التاسعة، شيخوخته وعتوه في العمر وتخريفه، ذلك الشيء هو اللغة الألمانية، العبقري بدأ يتهجاها وانتهى يتهجاها والممرضة الأمريكية لا تفهمه في سكرة الموت بالحق الذي كان يناشد به البشرية.. عاش ألبرت اليهودي -النصف صهيوني- في قرننا الماضي، أي منتصفه ويزيد ومعه عاش العباقرة الفطاحل والغزاة الحقراء من روزفلت إلى غاندي إلى مارتن لوتر والمهدي بن بركة. يشمل ذلك من ولدوا لحظة وفاته، وها أنذا أتخيل القرن دون أينشتاين ودون عباقرته، هل كان سيكون بخير وعافية وشمس، والحق عند الله فضيلة.. لماذا لا يقوم مستشفى جامعة برنستون بتكرار التجربة مع عظيم من عظماء أمريكا أو إسرائيل...؟ المتأخرين أو الحاليين...