كانت الساعة حوالي الثانية ظهرا يوم الثلاثاء الماضي وكان الطقس في جنيف حينما خرجت اتجول على ضفاف بحيرة ليمان في انتظار ساعة قطار عودتي إلى باريس غير ربيعي بأتم معنى الكلمة، لكنه كان مقبولا في تقديري وفي تقدير السياح والعشاق والمهاجرين والديبلوماسيين العرب والمسنين والرياضيين الهواة للجري والتنزه على ضفاف نهر ليمان الوديع والبديع . كما جرت العادة في المناسبات التي قادتني إلى عواصم أوروبية لأسباب مهنية أو شخصية، لم أفوت فرصة قضاء حوالي خمس ساعات في العاصمة السويسرية للوقوف عند الرمزية الثقافية التي تحفل بها شوارع العاصمة بدءا بمكتبة بايو الدولية الضخمة غير البعيدة عن مقر الخطوط الجوية الجزائرية ومكتب طبيب الأمراض العقلية عبد الحليم دويبي الذي عرفت لاحقا أنه جزائري من خلال أحد الأصدقاء المقيمين في عاصمة المال والدبلوماسية الدولية مرورا بالمكتبة البرتغالية وعشرات الملصقات الإشهارية المتعلقة بالموسيقى والأوبيرا والمسرح والفنون التشكيلية ووصولا إلى معرض الأممالمتحدة المنظم في الهواء الطلق على ضفاف نهر ليمان . أول ما لفت انتباهي في بداية تجوالي بروز إسم الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي على ملصقة إشهارية خاصة بمسرحية كلاسيكية الأمرالذي ذكرني بمساهماته الفرنسية السابقة في مجالي الفنون التشكيلية والسينما فضلا عن حضوره الدائم والأبدي في استديوهات كل القنوات التلفزيونية والإذاعية في إطار تعليقه على كل القضايا التي تهز الرأي العام فرنسيا وعربيا وعالميا كمثقف عضوي يدافع عن إسرائيل في كل الحالات وهذا ما تركه يدعو إلى إسكات ديودونيه بدعوى عنصريته حيال اليهود وإلى إقناع ساركوزي بالتدخل في ليبيا فقط . ولم يخطئ برنار هدفه حينما فعل ذلك لأن ضحية حدود حرية التعبير حينما يتعلق الأمر بإسرائيل قال لكاتب هذه السطور في المسرح الذي ينتزع منه عنوة أن فيلسوف فرنسا هو وزير الثقافة الحقيقي في فرنسا. أشلاء وأسلحة كيميائية سورية ولامبالاة عالم حقوق الإنسان بعد جولة أولى قادتني إلى مقر عصبة الأمم وإلى نصب تذكاري يجاوره ويخلد ذكرى مرور شاتوبريو وتاريخ كتابة أبيات شعرية للامارتين وإلى ملصقات إشهارية فنية ثابتة ومثبتة على طول شارع الفنادق والمحلات الفخمة المقابلة لنهر ليمان ، عرفت نزهتي نقلة نوعية وغير مسبوقة لحظة في الشارع نفسه لكن من جهة البحيرة حيث تعرض عشرات اللوحات لكبار رسامي الكاريكاتير الأجانب وبعض العرب . المعرض الذي ينظم تحت إشراف الأممالمتحدة يتناول مواضيع الحروب في فلسطين ومالي وسوريا وفي البوسنة سابقا والتحولات التي يعرفها العالم العربي في ظل تداعيات الربيع العربي أو الثورات العربية والتجسس في زمن الهيمنة التكنولوجية الأميركية والانتهاك المباشر في وضح النهار للحياة الخاصة سواء تعلق الأمر بالمواطنين العاديين أوالحكام الكبار مثل الرئيس هولند والمستشارة ميركل وترهيب أسانج صاحب كابلات ويكليكس وسنودن بسبب تسريبهما وثائق خطيرة تهدد الأمن القومي الأمريكي. رسامون من أمريكا وإسرائيل وإيران وفرنسا وكوبا وهولندا وبلجيكا ومصر وسوريا وتونس ولبنان والجزائر أدانوا كلهم كل أشكال القهر والظلم والقمع المتعدد الأشكال وكان لأسد النصيب الأكبر من الإدانة العامة كما كان متوقعا . هيام عباس برعت فنيا في تجسيد جرائم الأسد ومأساة الشعب السوري الذي يباد بالسلاح الكيميائي على مرأى القوى العظمى التي اتفقت على عدم التدخل هذه المرة لتقاطع مصالحها باسم محاربة الإرهاب كما يدعي الأسد نفسه. رسومات الطفلة البريئة الهاربة من لهيب النار النازل من السماء والطالع من الأرض في سوريا بشار الطالق للحمام على جماجم الآلاف من المدنيين الأبرياء وضحايا الهجوم الكيميائي وأشلاء أدمية مبعثرة إلى جانب قطع من المخ كانت كلها مرعبة بكل المقاييس على بعد أمتار من عرب جنيف المخمليين. لقد رأيتهم يتمتعون بزرقة بحيرة ليمان ويدخنون السيجارة الفاخرة مرتدين آخر الموضات مثلهم مثل السياح الروس البوتيين وغير مبالين للوحات معرض أحدث مآسي العرب . كنت تحت وطأة التأثر الذي لا يوصف حينما وقع نظري على لوحة ديلام الجزائري الوحيد في المعرض . كعادته أبدع ساخرا من حديث الأممالمتحدة عن السلام مستبدلا الحمامة ببيروكيه ثرثار.